ما بين السلطة والمنظمة: لماذا لا نعيد قراءة مذكرة الزعنون؟

TT

عقدت الحكومة الفلسطينية الجديدة بقيادة حركة حماس اجتماعها الأول موزعا بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب القرارات التعسفية الإسرائيلية التي تمنع وزراء حماس من الحركة خارج القطاع، ولم يكن من الممكن تجاوز هذا التوزع القسري إلا عبر تكنولوجيا الإنترنت وشبكات المؤتمرات. وتجري في الوقت نفسه مشاورات مكثفة لتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بزعامة حزب كاديما.

وبالمقارنة بين الحكومتين نلاحظ أن حكومة حماس تصدر إشارات اعتدال متلاحقة (رسالة الزهار إلى عنان، والسماح للوزراء الفلسطينيين الاتصال بنظرائهم الإسرائيليين)، بينما تصدر أحزاب إسرائيل التي ستشكل الحكومة إشارات تطرف متلاحقة (ترفض التفاوض، وتطرح حلا منفردا تقرره إسرائيل وحدها)، ويتم بالرغم من ذلك قلب الموازين فتتهم حركة حماس بالتطرف، بينما توصف أحزاب حكومة إسرائيل بالاعتدال والمرونة.

وينعكس هذا التقييم المقلوب، إسرائيليا ودوليا، على الوضع الفلسطيني الداخلي، فيبرز اتجاه يدعو إلى تشكيل حكومة ثانية (حكومة ظل) في مكتب الرئيس الفلسطيني محمود عباس تتولى المفاوضات حول التسوية (؟؟)، وتتلقى المساعدات الخارجية، كما يبرز اتجاه ثان يدعو إلى تشكيل مجلس شيوخ فلسطيني يكون، في الوضع الراهن، موازيا للمجلس التشريعي، وقد ينوب عنه. وبهذا يصبح لدى الفلسطينيين حكومتان ومجلسان تشريعيان.

وتغيب في هذه المساجلة الواقعية، قضية إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وهي التي برزت خلال الشهر الماضي على أنها القضية الأبرز والأهم في الخلاف الفلسطيني الداخلي. ومن الغرائب هنا أيضا أن حركة فتح التي أثارت هذه القضية في وجه حركة حماس، صمتت عنها، ولم تعد تبحث بها، بينما تضمن خطاب اسماعيل هنية لنيل الثقة إشارة محددة إلى ضرورة بدء الحوار من أجل إنجاز ذلك.

إن صمت حركة فتح، ومعها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ليس أمرا عرضيا. فهناك سابقة لحركة فتح، ولمجلسها التشريعي الذي انتهى أجله، تنسف أسس العلاقة مع منظمة التحرير، ويحتاج إحياء هذه العلاقة إلى موقف سيادي حاسم لا يملك اتخاذه سوى الرئيس محمود عباس.

قصة نسف العلاقة بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، يرويها سليم الزعنون (أبو الأديب) رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، في مذكرة رسمية وجهها إلى محمود عباس بصفته رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الثاني من شهر آذار الماضي، وجاء فيها:

«إن المجلس التشريعي عندما وضع قانون الانتخابات الجديد رقم 9/2005 الصادر في شهر حزيران 2005، أسقط المواد التي تتحدث عن اعتبار أعضاء المجلس التشريعي (132 عضوا) هم أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، حسبما ورد في القانون السيادي الصادر عن الرئيس الشهيد ياسر عرفات (قانون رقم 13 لسنة 1995)...... علما بأنه ـ رحمه الله ـ وقع على كل صفحة من صفحات القانون خوفا من إسقاط أي بند من بنوده».

وتقول مذكرة سليم الزعنون «يبدو أن الذي حدث، أنه طُلب من المجلس التشريعي إضافة مواد جديدة إلى القانون (القديم) لمعالجة المستجدات...... وأهمها التمثيل النسبي (50%) وزيادة عدد أعضاء المجلس التشريعي إلى 132 عضوا». وهنا يوجه الزعنون اتهاما خطيرا فيقول «يبدو أن البعض ممن يؤمنون بفصل الخارج عن الداخل، وفصل المجلس التشريعي عن المجلس الوطني، قد استغل الفرصة...... وإذا أجريتم المقارنة بين القانون القديم السيادي والقانون الجديد، تجدون أن اليد الآثمة أسقطت الفقرة (1) من المادة الثالثة والتي جاء نصها كالتالي: يكون أعضاء المجلس الفلسطيني فور انتخابهم أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني. وكذلك أسقطت الفقرة (7) من المادة (12) والتي تنص على أنه: لا يجوز لعضو المجلس الوطني الفلسطيني أن يرشح نفسه لعضوية المجلس إلا إذا قام بنقل قيده من دوائر الخارج».

وتقول مذكرة سليم الزعنون أيضا، انه تم إسقاط المذكرة الايضاحية والتي جاء فيها «إن إجراء الانتخابات لرئيس السلطة الوطنية، وأعضاء المجلس الفلسطيني، باعتبارهم أعضاء في المجلس الوطني، جاء مؤكدا على وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده». ويقترح سليم الزعنون في ختام مذكرته، بأن يبادر الرئيس محمود عباس وبصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى معالجة هذا الخلل، وذلك بإصدار مرسوم يفيد بعدم دستورية إلغاء قانون سيادي صادر عن رئيس اللجنة التنفيذية (ياسر عرفات)، والذي هو في الوقت نفسه رئيس دولة فلسطين، وذلك «أخذا بمبدأ عدم جواز إلغاء سلطة تشريعية أدنى لقوانين سلطة تشريعية أعلى». على أن يؤكد المرسوم على «إعادة تثبيت المواد التي أسقطت...... وإعادة تثبيت المذكرة الايضاحية..... وتعتبر هذه المواد والمذكرة التوضيحية جزءا أساسيا مكملا لقانون الانتخابات الصادر بتاريخ 13/8/2005».

وجنبا إلى جنب مع هذه المسألة الأساسية التي غابت عن قانون الانتخابات، برزت مسألة أخرى أساسية قابلة للتفسير في النظام الأساسي (الدستور). نص هذا النظام على إنشاء مجلس نيابي (المادة 65) يتكون من 150 نائبا يمثلون الشعب الفلسطيني. كما نص على إنشاء مجلس استشاري (المادة 109) يتكون بدوره «من 150 عضوا، ويكون له شخصية مستقلة، ويراعى في تشكيله نسب التوزيع السكاني للفلسطينيين في داخل فلسطين وخارجها. وينظم القانون شروط وطريقة انتخاب أعضائه أو تعيينهم حسب البلدان المقيمين فيها».

إن مواصفات هذا المجلس الاستشاري (أو مجلس الشيوخ)، هي نفس مواصفات المجلس الوطني الفلسطيني، وكأن النظام الأساسي يقترح إلغاء المجلس الوطني الفلسطيني أي إلغاء منظمة التحرير الفلسطينية. كذلك فإن النظام الأساسي هذا، لا يتحدث عن أن المجلسين (النيابي والاستشاري) هما جسم تشريعي واحد، بل يقيم فصلا بينهما. وهذا المجلس الاستشاري هو بحكم التعريف والتسمية استشاري وليس مقررا، وما يصدر عنه هو توصيات وليس قرارات، وهي تنشر حتى في الجريدة الرسمية كتوصيات.

وقد بدأت تظهر أخيرا في الصحف الفلسطينية، مقالات تدعو إلى انتخاب مجلس للشيوخ يعمل كهيئة استشارية، حيث «بإمكان مجلس الشيوخ دعم المجلس التشريعي بأفكار متجددة معمقة..... ونأمل ألا يخشى اعضاء المجلس التشريعي من احتمالية أن يكون لدى الشعب الفلسطيني مجلس للشيوخ وهيئة استشارية عليا». (يوسف القزاز، الحياة الجديدة، 2006/4/5.

لا نريد من وراء ايراد هذه الوقائع توجيه اتهامات بقدر ما نريد التنبيه إلى ضرورة معالجة هذا الوضع. وإذا كانت اللجنة التنفيذية للمنظمة قد لوحت بورقة الاعتراف بمنظمة التحرير في وجه حركة حماس، فإن المسألة مردودة عليها، حين لم تبادر إلى الدفاع عن نفسها وعن المنظمة التي تقودها. وهي مطالبة بأن ترفع الصوت لكي يتم استكمال القوانين التي تضمن وحدة الشعب، وحتى لا يقال بأن السلطة الفلسطينية لم تعد تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية أو بالمجلس الوطني الفلسطيني.

وإذا كان استكمال القوانين خطوة ضرورية مطلوبة، فإن المطلوب أيضا هو المبادرة إلى بدء جولة واسعة من الحوار لبحث كيفية إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. نقول إعادة بناء وليس التفعيل فقط، وذلك لأن أمورا كثيرة جدّت بحيث لم يعد مجرد التفعيل هو القرار المناسب. وتعني إعادة البناء أمورا عدة:

تعني أولا: ضرورة التحاور مع الفصائل غير المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية (حماس، الجهاد الإسلامي) لكي تصبح جزءا منها إن أرادت، وبعد أن ثبت بالانتخابات أنها تمثل جزءا أساسيا من الشعب الفلسطيني.

وتعني ثانيا: البحث في الأسس السياسية التي سيقوم عليها بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة بعد أن تم إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني ولم يتم بعد وضع ميثاق وطني جديد.

وتعني ثالثا: أن المضمون السابق لبناء المنظمة، القائم على تحالف الفصائل الفدائية، والنقابات المسيطر عليها من الفصائل الفدائية، والمستقلين المتحالفين مع الفصائل الفدائية، لم هو المضمون الصحيح والمقبول لإعادة بناء المنظمة من جديد. إن المضمون الجديد المطلوب هو تمثيل القوى الاجتماعية الفلسطينية، وبخاصة داخل المخيمات، وفي الإطار الفعال للجان حق العودة التي أصبحت منتشرة على امتداد العالم، داخل المجلس الوطني، ليعبر عن الشعب لا عن الفصائل وحدها.

وتعني رابعا: البحث جديا في اعتماد قاعدة الانتخاب لاختيار أعضاء المجلس الوطني، حيث المناخ مهيأ عالميا لتحقيق هذه الصيغة.

إن اللجنة التنفيذية هي المؤهلة للمبادرة من أجل بحث كل هذه الأمور. ونخشى أنها إذا لم تبادر ولم تفعل، أن يبادر إلى ذلك سواها من القوى الاجتماعية التي نمت واصبحت موجودة بقوة داخل الساحة الشعبية الفلسطينية.