ثلاث سنوات على سقوط التمثال: كوابيس المربع الأول

TT

تمر اليوم ثلاث سنين على سقوط النظام الشمولي، وهذه من الحسنات القليلة التي تركتها هذه الاعوام، وهي التخلص من نظام دكتاتوري هو الاسوأ في تاريخ الشعوب الحديثة، الا انه وبخلاف ذلك، فأن حصيلة التغيير عندما تحسب على المستوى الانساني والخدمي وعلى مستوى الاستقرار وحكم القانون، تظل ضئيلة لا تكاد ترى بالعين المجردة.

فهل ذهبت الآمال ادراج الريح تلك التي تصورت بأن العراق سينجح في اقامة تجربة ديمقراطية تشع على المنطقة، وتصبح فنارا يستدل ويستنار به في اكثر المناطق استعصاء على التغيير ومناعة ضد رياحه؟ العراق الذي ظننا بأن انسانه سيكون اثمن رأسمال بات عرضة للموت اليومي الرابض عند الزوايا، سواء ذلك الاتي عبر مفخخات الموت او القنابل البشرية او جماعات الموت والجريمة المنظمة، وبدل ان يتصدر البلد الخارج من تحت رماد السنين الاخبار في منجزه الاقتصادي والتنموي ومشاريع الاعمار والبناء، فإذا هو لا يبارح الصدارة ولكن بمسلسل قتلاه ودماره اليومي وعمليات تخريب بناه التحتية.

مع كل هذه الظلامية وأجواء اليأس المطبق وتسرب الاماني وانزوائها، كنا نعزي النفس ونرقبها بالآمال بأن العملية السياسية تسير وتتنامى وهي على السكة، ويزداد راكبوها في كل محطة. هذه العملية التي تمت بتضحيات الشعب العراقي الذي تحدى اكبر قوى القتل ظلامية وبشاعة ورغبة في تعويق تقدمه، وخرج لثلاث مرات لارسائها، وتمت بدعم ومباركة مرجعية دينية رشيدة اعطت من رصيدها لانجاحها، واذا بالعملية السياسية هي الاخرى تصل اليوم الى عنق زجاجة خانق وتصاب بالشلل. فهل يعقل بأن هذا البلد ذو الارث الذي سطره ملايين الضحايا والمظلومين لا ينجح وبعد ثلاث سنين في انتاج طبقة سياسية ذات خطاب وبرنامج وطني؟ وإذا كان العالم اجمعه منشغلاً، سواء تلك القوى المحتلة التي يراد لها ان تظل في حدود دفع اموال وخسائر بشرية دون التدخل وإبداء الرأي، وكأنها جاءت كجمعية خيرية، او الدول الاوروبية التي باتت تدرك بان الارهاب الذي اصبح العراق ميدانه الاول، فأنها لن تكون مستقبلاً بمنأى عنه، ولذا فهي تتطلع الى حكومة عراقية شرعية لكي تساعدها وتتعاون معها، الى دول الاقليم التي يريد البعض منها ان يتعاطى ايجابياً مع الوضع العراقي، الذي لا يمكن لانشطاره او تفتته او اقتتاله الا ان يعود بهزات ارتدادية على المنطقة برمتها. فإذا كان هذا شأن العالم بعيده وقريبه وهو الانشغال بالازمة السياسية، وقد ضاق ذرعاً بعدم اتفاق فرقائها، فما بالك بالإنسان العراقي الذي لم يعد يفكر في أي حق تجلبه له الديمقراطية الا حق الحياة.

أربعة أشهر مضت على الانتخابات وشهران على اختيار الائتلاف لمرشحه لم تثمر عن تشكيل حكومة في بلد لو وزعت ازماته وكوارثه وعدد القتلى فيه وضحايا التهجير على كل حكومات الارض لسقطت جميعاً، هذه الازمات التي تستلزم بديهياً حكومة قوية وجهازي قضاء وتشريع فاعلين لاخراج البلد من مأزقه وشبح مخاوفه الممتدة وأقربها التقسيم وليس ابعدها الحرب الاهلية، في حين ان ما لدينا لا يعدو حكومة تصريف اعمال وبرلمان معطل وقضاء مشلول.

ومن هنا فليس من الحكمة الاتكاء على تفويض الشعب وتناسي دور ممثليه، فمن الذي يعبر عن ارادة الشعب بعد الانتخاب غير برلمانه، برغم أن دور البرلمانات في العالم المتقدم بدأ يتدهور لصالح السلطة التنفيذية من جهة فيما تدهور من جهة اخرى لصالح الاحزاب والكتل التي باتت تتخذ القرارات وتعقد الاتفاقات خارجه، ثم تأتي للبرلمان للتصويت والمصادقة. ولكن المفارقة ان يبدأ اول برلمان عراقي دائم منتخب في تاريخه بهذا المرض الذي استلزم من برلمانات العالم عشرات ومئات السنين من الممارسة.

انها بوضوح مشكلة الائتلاف، اذ انه لا يقدم رئيس وزراء للشيعة فقط بل للعراق وهذا يستلزم ان يحظى برضا الاطراف الاخرى. لذا بات على الائتلاف الذي هو صاحب المشكل والحل ايضاً ان يتفق على طريق للخروج، فدعوات حفظ وحدة الائتلاف لا تتقدم على حفظ العراق الذي وجد الائتلاف لخدمته وليس العكس. ان نظرية النيابة القديمة التي تعتبر النائب ممثلاً لمنطقته ويتحدث بأسمها قد انتهت لصالح نظرية ان النائب ممثلا لكل الامة، ولذلك فأن النائب ايا كان انتماؤه الحزبي او القومي او الديني او المذهبي يفترض ان يمثل الشعب العراقي، وهو الذي اقسم يمين الحفاظ على مصالحه، فليس من المصلحة ان يعطل الدستور وتشل البلاد ويحدث الفراغ الامني الذي سارعت وتسارع القوى المنفلتة لملئه.

اذا فشلت جهود الائتلاف في ان ينجح بالتمسك بمرشحه واقناع الاخرين به او باستبداله او بالذهاب بخيار اخر الى جواره، فعليه أن يدفع بالمسألة الى البرلمان والذي سيلجأ الى آليات التكليف التي ثبتها الدستور، والتي تقتضي بعد رئاسة البرلمان اختيار مجلس لرئاسة الدولة بأغلبية الثلثين، والذي عليه ان يختار خلال خمسة عشر يوماً مرشحاً عن الكتلة الاكبر ليكلفه بتشكيل الوزارة، وسيمنحه شهرا اخر لتقديم اسماء حكومته. ومن مزايا هذا الخيار بأن اي مرشح اذا سقط فأنه سيكون بأيدي الكتل الاخرى ونتيجة لعدم حصوله على ثقة البرلمان، وهذا ما يجنب الائتلاف الانشقاق من داخله، الا ان من مساوئ هذا الخيار انه اولاً سينفق زمناً طويلاً لا تحتمله اوضاع البلد. وثانياً تأتي مشكلة غموض الدستور في التكليف الثاني، وهل سيكون لمرشح من نفس الكتلة او اغلبية اخرى. وثالثاً وذلك هو الاهم والأصعب، انه لكي نصل الى لحظة تكليف مرشح الائتلاف لرئاسة الوزارة علينا ان نجتاز عقبة تأليف الرئاسة، وهذا ما ستصر الاطراف على عقدها جميعاً بصفقة واحدة ، اذ انها لا تريد ان تخسر اقليتها المعوقة وعند ذاك نعود للمربع الاول.