حجارة «الدمنو»

TT

«ا تتمارضوا، فتمرضوا، فتموتوا»، هذا حديث شريف، ولقد وقفت على تلك الحالة، عندما تمارضت والدة أحد الأقارب، ثم مرضت فعلاً، ثم ماتت فجأة، رغم أنها من الأساس غير مريضة، بل إن صحتها «تفلق الصخر» مثلما يقولون، ولكنها رحمها الله كانت موسوسة وخوافة، وتخشى الحسد والعين، وما أن يدخل منزلها زائر، إلاّ وتنطرح على فراشها «وتوِن وتحِن وتتأوه»، وما أن يخرج الزائر إلاّ وتقفز من فراشها كالدّبة القطبية المتعافية، غير أن الحديث الشريف انطبق عليها تماماً، وذهبت المسكينة إلى حتفها مشيعة بقليل من الدموع.

فوسواس المرض هو بحد ذاته علة، ولعل ذلك الرجل الذي ورد ذكره بمجلة طبية بريطانية هو الذي ضرب الرقم القياسي بالوسوسة وانفراط العقل، فقد استطاع ذلك المريض، حسب ما جاء في المجلة، طوال 34 سنة دخول 68 مستشفى نحو أكثر من مائتي مرة، وأجرى لدمه التحليل آلاف المرات، إضافة إلى مئات المرات من التصوير بالأشعة، وكان بطنه يبدو كميدان معركة نتيجة العمليات الجراحية الكثيرة التي أجريت له، على الرغم من انه لم يعان في الواقع أي خلل، عدا هوسه المرضي طبعاً، وقد بلغت تكاليف علاجه طوال تلك السنوات ما يقارب مليوني جنيه.

والأمر غير المضحك انه قضى نحبه، عندما «هفّته» سيارة مسرعة عندما كان يقطع الطريق وهو خارج لتوه من المستشفى، فارتاح هو من المستشفيات وارتاحت المستشفيات منه كذلك.

وقد حكى لي ممرض أن هناك سيدة تتردد على المستشفى ومعها أولادها الثلاثة المزعجون بحركتهم وصراخهم، ويقول إنها على الدوام عندما تتوتر في غرفة الانتظار تخرج من حقيبتها ورقة وتقرأها ثم تبتسم وتهدأ، وسألتها يوماً عن سر هذه الورقة، فناولتني إياها وإذا بها إحصائية وردت في كتاب «غنس» للأرقام القياسية، عن أكبر عدد للمواليد لامرأة واحدة، فكان 69، ففي 16 مرة ولدت توأمين، وفي سبع مرات ثلاثة توائم، وفي أربع مرات أربعة توائم.

وذلك لكي تحمد ربها انه لا يوجد لديها غير ثلاثة شياطين صغار. والشياطين الذين اعنيهم هم الأطفال بالطبع الذين لا غنى لنا عنهم مع الأسف، ويا ليت الإنسان من بعد أن ينزل من بطن أمه بعدة ساعات يشب عن الطوق، ويخط للولد شارب، وتقفز البنت مهرولة نحو التسريحة لتتمكيج بمكياج والدتها، بدلاً من قضاء عدة سنوات في سجن الطفولة المزعج.

وإليكم نموذج من هذا الإزعاج الذي حكاه لي صديق لديه ابنة عمرها سنتان ونصف ـ حلو؟! ـ، ثم وضعت زوجته طفلة أخرى، وبدأت الكبيرة تغار من الصغيرة، وتتظاهر بخبث أنها تقبلها وهي في الواقع تحاول أن «تغولها»، فاشتريت لعبة على شكل طفلة صغيرة، وقلت لها: «قبلي لعبتك بدلاً من تقبيل أختك». وأخذتها مني بكل ابتهاج وفرحة، وتوجهت نحو الطفلة الصغيرة، وضربتها على رأسها باللعبة. ولا أدري كيف أخذ هذا المقال مسيرته، ولكنه بالمرض، الذي جرنا إلى المستشفيات، والمستشفيات جرتنا للممرض، والممرض جرنا لأم الأطفال، والأطفال أوصلونا لـ«دوشة الدماغ».

إن هذا المقال أشبه ما يكون بـ«حجارة الدمنو»، فانتبهوا بعد ذلك، «لا يطيح بعضكم على بعض».

[email protected]