.. ووهم الانقلاب ومتطلبات التسوية!

TT

بسرعة قياسية تحرك المشهد السياسي اللبناني: بعد الجدال الصاخب الذي حركته أزمة قمة الخرطوم حول المقاومة، وحط رحاله من بعدها في مجلسي النواب والوزراء، كان الظهور الدرامي للسيد أحمد جبريل في بيروت بعد خلوة في قريطم مع النائب الحريري وبمسعى مباشر من حزب الله.

تلاحقت الأخبار بالإعلان عن استئناف الحوار، بل وبالعودة الى انعقاد مجلس الوزراء برئاسة الرئيس اميل لحود، وبالتزامن مع ترتيبات حثيثة في بيروت لزيارة الرئيس السنيورة الى دمشق.

خلف هذا المشهد، جرت اتصالات دبلوماسية عاجلة ومكثفة تولاها السفراء المتحركون في الواقع اللبناني منذ سنة، محذرين قوى 14 شباط من التمادي في التصعيد السياسي لأن «الظروف ليست مؤاتية». حتى ان لقاء رايس ـ شيراك في باريس بحث في كيفية خفض منسوب التوتر في لبنان، والمساعي المصرية ـ السعودية تحركت مجددا بعدما كانت السباقة منذ اشهر في إسداء النصح بضرورة سلوك الاكثرية النيابية والوزارية خطا عاقلا يحفظ الاستقرار ويبتعد عن مواصلة الحرب على سورية، وهو ما اقتضى اعتذارا علنيا لافتا من زعيم تيار المستقبل، على إفشال المبادرة العربية التي أنكر بعض حلفائه وجودها آنذاك.

جدل الخرطوم حول المقاومة حرّكه السنيورة، في خطوة شكلت تجاوزاً لقاعدة دستورية معروفة، فتعديل البيان الوزاري يستدعي حسماً داخل الحكومة اولاً، ثم مثولاً امام البرلمان لطلب الثقة من جديد، والتبرير السياسي لاقتراح استبدال العبارة المأخوذة من البيان الوزاري بمصطلح «حق الشعب اللبناني»، لم يقنع القمة العربية التي ساندت الرئيس لحود شكلاً ومضموناً، وأثار استهجاناً وقلقاً كبيرين في دوائر لبنانية عديدة. فالجميع يعرف ان رأس المقاومة، هذه المقاومة التي انتصرت على اسرائيل، هو المطلوب منذ استصدار القرار 1559، والمسألة الوطنية اللبنانية الراهنة ليست طلب الاعتراف بحق مبدئي للشعب اللبناني، بل وبالتحديد حماية هذه المقاومة بوصفها قوة التحرير المجربة وقوة الدفاع الرادعة الى ان يحدد الحوار الوطني موقعها ودور سلاحها في استراتيجية الدفاع الوطني. التخبط بين وهم الانقلاب ومتطلب ات التسوية يبدو الخيط الرفيع الواصل بين جملة من المواقف المتناقضة، والمواعيد والأهداف الخائبة التي أطلقها زعماء الموالاة الجديدة أو بشروا بها متمنين تارة سقوط النظام السوري وطورا إسقاط الرئيس اميل لحود.

فمنذ أشهر تدور قوى 14 شباط حول نفسها، في حلقة من الاستحالات والتناقضات تحكمها مكابرة عدم الاعتراف بتبدل التوازنات الداخلية وفشل الانقلابات الاقليمية التي وعد بها المحافظون الجدد بعض أصدقائهم اللبنانيين.

السفير الأميركي عاد بعد سنة من المقاطعة الى زيارة زعماء التيار العروبي الذي تصنفه أدبيات 14 شباط، بمعسكر حلفاء سورية، وكان ظهور فيلتمان من بنشعي حيث مقر إقامة الوزير السابق سليمان فرنجية، معبراً، بعد زيارته للنائب السابق لرئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي، وهذا التيار يسترجع نبضه وحضوره السياسي بأحزابه وزعاماته، مرتكزاً الى جردة الحساب مع الموالاة الجديدة التي تحكم منذ الانتخابات الاخيرة وتبدو عاجزة عن تحقيق أي من وعودها السياسية والمعيشية للناس، بل ان الرئيس عمر كرامي أعلن صراحة عن تسارع الاتصالات لإعلان جبهة سياسية وطنية تضم جميع هذه الأطراف اللبنانية العروبية التي كانت شبه مغيبة خلال السنة الماضية.

العالم يتغير بدءا من واشنطن، حيث عصابة المحافظين الجدد باتت مكسر عصا، يتداعى جبروتها ويغادرها العديد من نجومها، طلبا للنجاة من قسوة الحساب العراقي ومن تبعات انهيار الوهم الامبراطوري، كما فعل فيلسوف المحافظية فوكوياما. وحتى رايس ذاتها نعت عقيدة الحروب الاستباقية، بينما تجتاح التيارات الاستقلالية أميركا الجنوبية وتنتفض بيلاروسيا واوكرانيا وقد تكون جورجيا على الطريق.

ذهنية المكابرة الانقلابية لن تساعد على تخطي حلقة الاستحالة السافرة: فقوى الأكثرية النيابية تعلم ان الاجندة الاميركية معطلة في موضوع المقاومة بفعل توازن القوى اللبناني الداخلي شعبياً وسياسياً، وبفعل ما تمثله المقاومة اللبنانية في معادلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي.

لقد سبق للأكثرية ان «استعارت» عشرات آلاف الاصوات من ناخبي المقاومة الذين لولاهم لما تحقق لها حجمها البرلماني الذي تفاخر به، وهذه الاستعارة لم تستوقف السفير الاميركي فيلتمان الذي تحدث عن اقتصاد لبناني يستعير الرساميل والوقت.

أما الوقت الذي «يجود» به لارسن في إمهال الحكومة لنزع سلاح المقاومة، فليس الا تعبيراً عن العجز، مع استمرار الحرص على استيلاء التناقضات اللبنانية وتغذية الهواجس بين القوى المحلية بالضغط السياسي المستمر، وحيث يفيد لارسن من توافر مجموعة من «المريدين والمقلدين»!

ان الاكثرية المكابرة عاجزة ايضاً عن تحريك الشارع لإقالة الرئيس اميل لحود، ونصائح السيدة رايس في بيروت عززت موقف البطريرك صفير في التحذير من فوضى «حروب الشوارع» وتداعياتها الخطرة، وهي بالأصل عاجزة عن تأمين النصاب الدستوري لإقالة الرئيس، بينما لا تريد القبول بالعماد عون خلفا له، خشية طروحاته الإصلاحية الجذرية. كما تخاف القبول بفكرة الانتخابات النيابية المبكرة التي تضمنتها مبادرة الرئيس سليم الحص، بسبب ما ستنطوي عليه النتائج أياً كانت التقسيمات الانتخابية، أقله بعد تبدل التحالفات السياسية والتقارب بين حزب الله والتيار الوطني الحر. ولا يجاري خوف هذه «الاكثرية» من الانتخابات سوى خوفها من الاعتراف العلني بأن المساكنة الدستورية مع الرئيس لحود هي النتيجة الطبيعية لمتوالية العجز والفشل التي تحكم مسارها، ويبدو في أي حال ان قوى 14 شباط ستكون بحاجة الى التعلم من تجربة المساكنة الدستورية الفرنسية، التي عاشها الرئيس شيراك في موقع رئاسة الحكومة مع الرئيس الراحل ميتران، كما خبرها من موقعه من الاليزيه مع رئيس الوزراء السابق جوسبان، ما دامت الديمقراطية عنواناً مزعوماً لتدخلات «الأم الحنون»، رغم انشغالات شيراك الفرنسية ومتاعبه المتزايدة.

في موازاة الاستعصاء المحكم داخلياً، والفشل المتمادي للغزوة الاميركية في المنطقة، يبدو الوضع الاقليمي بالغ الدلالة: مفاوضات أميركية – إيرانية حول العراق بطلب من واشنطن، دينامية روسية تخلف الدور الفرنسي والاوروبي التقليدي في شتى محاور التأزم الاقليمي، عودة الحياة الى المثلث العربي السعودي ـ المصري ـ السوري، والى دوره الحاسم في إقامة شبكة أمان عربية رسمية، وقيام سلطة فلسطينية جديدة ملتزمة بالمقاومة والصمود بعد انتصار حماس التاريخي، بينما إسرائيل تدشن عهدا جديدا من الاضطراب السياسي.

ان تحولاً واحداً بمفرده من تلك المتغيرات، لا بد أن يقود أي عاقل في لبنان لمراجعة حساباته، فكيف بها ان تزامنت وتفاعلت وأرخت بظلالها على الحالة اللبنانية كالعادة؟‍‍‍‍‍‍‍‍ الحوار الوطني يبدو حاليا بمثابة وصفة سحرية لهدنة طويلة نسبياً، اذا ما خمد الوهم الانقلابي الذي لا يزال مستحكماً عند البعض، أما الانتقال الى تسوية قابلة للحياة فيشترط سقوط الوهم من جذوره لصالح الواقعية السياسية التي تستدعيها التسويات.

منذ إعلان وثيقة التفاهم التي وقعها العماد ميشال عون والسيد حسن نصر الله، لا يزال السؤال الذي يتوقف عليه مستقبل الأحداث السياسية اللبنانية: ماذا سيختار سعد الحريري ومعه تيار المستقبل: وهم الانقلاب أم منطق التسوية؟‍‍‍

* كاتب لبناني