من أجواء جائزة الملك فيصل العالمية

TT

شهد يوم الاثنين الماضي، الحفل الثامن والعشرين لتسليم جائزة الملك فيصل العالمية في الرياض، وهي المناسبة التي دُعيت إليها مع عدد من النساء في خطوة ذات بعد واضح في مسيرة تعاطي المرأة مع الشأن العام السعودي، فبغير المشاركة لا يكون نماء، وإنما وجود مستقل عن عناصر الحياة، منفصل عن موافقتها ومخالفتها! ومن العجز حقاً أن نقصّر عن بلوغ التواصل مع مكونات هذا الكون العظيم، برجاله ونسائه، وفي الوسع ألاّ نقصّر.

والآن، ماذا عن الثمار العبقرية! إنها طبقات على كل حال. أمّا عن المقياس الذي نرتب به درجاتها فيتجه نحو الأداة بالمقارنة إلى المحصول، ثم نوعية المجال بين العلوم وفنونها وما يعود بخيره على البشرية، فخمسين صفحة من القصة (أداة) تعطيك حكمة يمكن أن ينقلها إليك بيت واحد من الشعر(محصول)، فليس أشيع من فن القصة، ولكن ليس أندر من ذوق الشعر والحكم عليه حتى بين النخبة من المثقفين، فإذا دار الحديث واستقر عند لجنة التحكيم المخولة باختيار الفائزين بجائزة الفيصل، فالقول إنها جهة رفيعة في مستواها العلمي والأدبي، تعرف كيف تزن علماءها حتى قبل أن تفعل جائزة في حجم نوبل، وهو شرف تهيأ في وطن ولم يتهيأ في غيره، غير أن اللافت للنظر، أن معظم الحاصلين على جائزة الملك فيصل العالمية في فرعي الطب والعلوم، يعودون بجنسياتهم إلى أصول غربية لا عربية، فما المرجع في ذلك؟

إنه القصور في أنظمة تعليم الوطن العربي، والذي تشير إليه نواقص يطلق على أكثرها إجماعاً عدم الترابط ما بين التعليم الجامعي والعالي، وبين خطط التنمية، فكم يبدو جلياً ومن أرقام التسجيل في جامعاتنا ذاك الانتساب الهائل إلى كليات الآداب والعلوم الإنسانية مقابلة بكليات العلوم على اختلافها، مع أن حاجاتنا إلى خريجي الكليات الأخيرة أكبر من العلوم النظرية على أهميتها. وبما أن مباريات الاعتماد في الكليات العلمية ترتكز على قبول عدد محدود من جمهور المتقدمين، فلا حرج على الشباب العربي إذن حين لا يجد سبيلاً له سوى الهجرة والالتحاق بجامعات الغرب وبالتخصص الذي يرغب، حتى إذا انتهى من دراسته وكان من المتفوقين استقطبته الدول الجاذبة بمغرياتها المهنية والمادية والغائبة عن وطنه الأم، أو واجهته بجملة من التهديدات والعراقيل إن أصر على العودة وكان من ذوي الاختصاصات العلمية الدقيقة، لتكون البلاد العربية بذلك قد خسرت غير تكاليفها التي صرفتها على أبنائها قبل هجرتهم، طاقتهم الإنتاجية التي كان من الممكن أن يثروا بها أوطانهم.

فإن كانت الولايات المتحدة، ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، تربح من مجموع مائة ألف عالم عربي على أرضها ما مقداره أربعة مليارات دولار، وهو ما يعادل قيمة مساعداتها الاقتصادية والسياسية لكل دول العالم في عام 2000، فكيف إذا عرفنا أنه قد وصل وفي العام نفسه عدد المهاجرين العرب من الكفاءات العالية والمقيمة في أمريكا إلى 353 ألف شخص!

باختصار شديد، مغادرة الوطن موجعة، ولكن ما العمل مع غياب التكامل الهيكلي وتنافر برامج الدول العربية التخطيطية! مع شح التسهيلات العلمية والمناخ الملائم للبحث العلمي والصرف عليه، مع إفرازات البيئة الناتجة عن انخفاض مستوى المعيشة والخلل التنموي المجتمعي، ثم والأكثر إيلاماً، ماذا عن تقييم المؤهل في الدول المتقدمة ومكافأته بناء على جهده وتميزه الفردي! ماذا عن توفر المحيط العلمي المشجع والجو السياسي المحفّز! بل وعن أسلوب الحياة ككل! حسبي ما ذكرت، فكم أضبطني أتساءل لو قُدّر للعالَم الغربي أن يكون عربياً، فإلى أي منتهى كان سيؤول مصيره؟

ومع كل هذا، لنقل إنه يمكننا التحول في بلادنا العربية إلى نسخة منقّحة ومصقولة أجود في التعليم وأقدر على ضخ الوطن بالعقول والسواعد، مع مراعاة الإفادة من تجاربنا السابقة بجميع مسوداتها.

ولنبدأ مثلاً بمراجعة سلم الرواتب والحوافز الممنوحة لذوي الكفاءة، وباحترام الجانب الإنساني المتعلق بحرية الرأي والتحرك العلمي، وبتوزيع المسؤوليات بحسب الاختصاصات وبمنأى عن الأهواء الذاتية، وبتقديم أجور متناسبة مع سخاء الوطن المالي للعاملين الأجانب لديه، وببرمجة سياسة البحث العلمي واستقطاع نسبة من الدخل القومي لأغراضه ومراكزه، وباستقدام من بقدرته وإمكاناته في البلدان المتطورة من دراسة وتدريب النهوض بالقديم وتبديل العقيم، وكأني بهذا الرأي تحديداً أكرر اتفاقاً كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز، لدى افتتاحه أعمال الدورة الرابعة لمجلس الشورى السعودي بتاريخ الأول من الشهر الحالي، في عزم بلاده على محاربة روتينها انتصاراً لجودة العمل الحكومي وتحريراً للاقتصاد، الأمر الذي أكده ولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز بإعلانه عقب رعايته حفل تسليم جائزة الفيصل بتعديل الأنظمة التي مر عليها أكثر من 50 عاماً، بما فيها النظام القضائي وبيروقراطيته المعطلة، دون التحرج من الاستعانة بالخبراء والمتخصصين في بلدانهم لحين بلوغ الهدف والوضع الأرجح أثراً، والذي نرجو أن يضم إلى جنبات تصحيحه نظم التعليم غير المجدية، من حيث هي القوانين التي تتحكم في عقل الإنسان ونفسيته.. في فاعلية المجتمع من خموله.

المنطق والحياة لا يفترقان، والآفة فيمن لا يفهمون المنطق أنهم لا يحسونه ولا يتقنونه، وفيمن لا يعيشون الحياة أنهم لا يفهمونها، وما من علم نافع ويناقض المنطق العاقل، فإن استوعبناه فهو مفسر بأسبابه ومقدماته، وإن لم نهضمه فليس لنا أن نناقض بينه وبين أصحابه، وحين نضع العلم بمنطقه في غير موضعه فإننا نخطئ في حق أوطاننا، فتظل جوائز العلوم لأهل الغرب ومن تعلم في جامعاتهم، ونكتفي نحن بتصدير الأدمغة والبطالة المقنعة، ولو أننا رجعنا إلى جائزة الملك فيصل العالمية وإلى سنة الارتقاء، لتمنينا عليها الاستزادة في نموها بفرع سادس يُعنى بخدمة الإنسانية جمعاء بقطع النظر عن الجنسية أو الدين، فسعة الأرض بساكنيها إنما تحمل لنا معها كلمتين: «عباد الله».