كي لا يظلم الشيعة في العراق

TT

لست أشك في أن ما قاله الرئيس حسني مبارك عن الشيعة، في الحوار الذي أجرته معه قناة «العربية» كان زلة لسان، انبنت على معلومات مغلوطة، آية ذلك أن السلطات المصرية حاولت التخفيف من وقع الكلام، من خلال تصريح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، الذي قال فيه إن كلام الرئيس نابع من قلقه البالغ إزاء الوضع في العراق، وإن مصر تعامل كل أطياف الشعب العراقي من دون تمييز، وكان ملاحظاً أن نص الحوار، الذي نشرته الصحف المصرية صبيحة الاثنين الماضي (10/4)، حذفت منه العبارات التي قال فيها الرئيس المصري إن الشيعة يمثلون 65% من سكان العراق، وإن ولاء أغلب شيعة المنطقة هو لإيران وليس لدولهم التي يعيشون فيها.

غير أن إغفال هذا النص في الصحف المصرية، ومحاولة تخفيف وقع الكلام من جانب المتحدث باسم الرئاسة، لم يغيرا من الصدى السلبي الذي أحدثه في أنحاء العالم العربي، وبين العرب الموجودين في أوروبا والولايات المتحدة، حيث ما زالت أصوات ممثلي الشيعة ـ حيث وجدوا ـ تعبر عن استنكار الكلام ورفضه، وما زالت الاتصالات الدبلوماسية مستمرة بين بغداد والقاهرة لمحاولة احتواء الموقف المتوتر الذي نشأ عنه.

أياً كان الأمر فإنه لم يعد بوسعنا أن نتجاهل الكلام، الذي صدر عن لسان رئيس أكبر دولة عربية، ثم بثه تلفزيونياً بحيث شاهده الجميع، وما يدعونا إلى التوقف أمامه، رغم كل محاولات تجاوزه، أن مضمونه جاء دالاً على كم الانطباعات المغلوطة وغير الدقيقة الشائعة في بعض أوساط النخبة السياسية صاحبة القرار في العالم العربي، وإذا جاز لي أن أتقصى تلك الانطباعات التي أعنيها، فلعلي أركز على المسائل التالية:

* إنه لم يفرق بين الولاء المذهبي والولاء السياسي، إذ المعلوم أن الفقه الشيعي يلزم الاتباع المتدينين بتقليد أحد المراجع الأحياء، ولأن بعض كبار مراجع الشيعة أصبحوا مستقرين في مدينة «قم» الإيرانية، فإن كثيرين من الشيعة خارج إيران يقومون بتقليدهم واتباع اجتهاداتهم ودفع الزكوات لهم، لكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن يكون ولاء الشيعة في الخارج هو للخط السياسي الإيراني، وفي أيام الإمام الخميني كان أغلب الشيعة الإيرانيين يؤيدونه سياسياً، ولكنهم يقلدون السيد محسن الحكيم مرجع الشيعة الكبير الذي كان مقره في مدينة النجف بالعراق.

* إن تعميم الاتهام على الشيعة، جلهم أو كلهم، بأن ولاءهم لإيران وليس لأوطانهم، يظلمهم ويسيء إليهم إلى حد كبير، برغم أن الإساءة لم تكن مقصودة بطبيعة الحال، وأحسب أن ذلك التعميم ناشئ عن الخلط بين مفهومي الولاء المذهبي والولاء السياسي الذي أشرت إليه تواً، وما الأصداء الغاضبة التي حدثت في أوساط عموم الشيعة إلا دليل على عدم دقة ذلك التعميم.

* إن إطلاق الاتهام على شيعة العراق يظلمهم بذات الدرجة، ويبخس تاريخهم حقه، ذلك أن شيعة العراق على مدار تاريخهم ظلوا عروبيين وطنيين، وليس صحيحاً على الإطلاق أنهم كانوا إيرانيين الهوى، بل أنهم لم يكونوا يتجهون إلى إيران بقدر ما أن الإيرانيين المتدينين كانوا يتجهون الى العراق، لكي يحصلوا على العلم في حوزة النجف الأشرف.

ولست بحاجة لاستعادة موقف شيعة العراق الوطني والعروبي منذ تأسيس الدولة الحديثة وفي ثورة العشرين، فكتب التاريخ سجلت ذلك كله، لكن أحسب أن الالتباس حدث من القراءة الخاطئة لموقف شيعة العراق بعد الثورة الإسلامية في إيران (عام 1979)، ذلك أن بعض القيادات الشيعية التي عارضت حكم الرئيس صدام حسين مع غيرها من الرموز الدينية الأخرى، لجأت إلى إيران التي رحبت بها، خصوصاً بعض عناصر حزب الدعوة، التي دفعها الحماس وقتذاك إلى تأسيس ما سمي بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وكان للمجلس الذي رأسه في حينها السيد محمد باقر الحكيم مقر دائم في طهران، وهنا أفتح قوساً لأنبه إلى أن النظام السابق قتل القيادي الشيعي السيد محمد باقر الصدر، كما قتل عالم أهل السنة الأشهر الشيخ عبد العزيز البدري، الأمر الذي يعني أن النظام لم يضطهد الشيعة لأسباب مذهبية، كما يحاول البعض أن يروج الآن لتوظيف الفكرة لبلوغ أهداف أخرى، ولكنه قام بتصفية بعضهم لأنهم معارضون، تماماً كما صفي المعارضين من أهل السنة، وليس أدل على ذلك من أن أبرز قيادات النظام السابق في الحكومة والحزب كانوا من الشيعة، إقفل القوس من فضلك.

ما أريد أن أقوله إن لجوء بعض القيادات الشيعية إلى إيران بعد الثورة، وترحيل نظام صدام حسين لأعداد كبيرة منهم أثناء الحرب التي شنها ضد النظام الجديد، بحجة أنهم من أصول إيرانية (الحقيقة أن أكثرهم انتحل الهوية الإيرانية أثناء المرحلة العثمانية للتهرب من الالتحاق بالجندية)، هذه الخلفية أعطت انطباعاً خاطئاً بأن شيعة العراق محسوبون على إيران وولاءهم لها، وهذا لم يكن صحيحاً لأن شيعة العراق الذين انتقلوا إلى إيران أو رحلوا إليها لم يندمجوا في المحيط الإيراني، بل ظل لهم موقفهم المتميز، حتى في داخل المرجعية الدينية، والذين تابعوا تجربة الثورة الإيرانية، خصوصاً في ثمانينيات القرن الماضي يذكرون لا ريب أن السلطات الإيرانية سعت إلى نقل المرجعية من النجف في العراق إلى مدينة قم، التي ازدهرت بعد الثورة واستقطبت علماء الشيعة من كل صوب، خصوصاً العراقيين منهم، الذين آثروا الفرار من سطوة نظام صدام حسين، غير أن فقهاء الشيعة العرب المقيمين في إيران أصروا على مقاومة هذه الخطوة، واجتمع سبعون منهم في مدينة قم، وأصدروا بياناً شددوا فيه على رفض نقل المرجعية من النجف، وكان موقفهم ذاك سبباً في توتير علاقتهم بالمؤسسة الدينية الإيرانية، الأمر الذي ترتب عليه عودة بعضهم إلى النجف، والتضييق على البعض الآخر ممن اضطروا إلى البقاء في إيران. صحيح أن بعض القيادات الدينية الشيعية والمجموعات التابعة لها ارتبطت بإيران منذ ذلك الحين وحتى الآن، وهو أمر لم يعد سراً لأن في العراق مجموعات أخرى لها ارتباطاتها الخارجية بجهات أخرى، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن هناك قيادات شيعية أخرى لها انتماؤها العروبي المعلن، وهو ما عبرت عنه مواقف آيات الله الخالصي والبغدادي والحسيني، علماً بأن مقتدى الصدر لا يزال محسوباً على التيار العروبي، من الصحيح كذلك أن هناك قطاعاً عريضاً من مثقفي الشيعة يقف بالكامل في المربع الوطني والعروبي، وعناصره لها موقفها الحاسم الرافض لأي تدخل خارجي في الشأن العراقي، بصرف النظر عما إذا كان من جانب إيران أو الولايات المتحدة الأميركية ومن لف لفها. بقيت بعد ذلك معلومة أخرى تستحق المراجعة في حديث الرئيس مبارك، وهي تلك التي أشارت إلى أن الشيعة يمثلون 65% من سكان العراق، وهذه معلومة لا يستطيع أحد أن يؤكدها أو يدافع عنها حيث لا يوجد أي سجل رسمي موثوق به يتحدث عن الهوية المذهبية لمسلمي العراق، أدري أن هناك أطرافاً صاحبة مصلحة روجت لهذه المقولة، وهي ذاتها التي سوقت قصة اضطهاد الشيعة لأسباب مذهبية في ظل النظام السابق، وهما الشائعتان اللتان صدقهما الأميركيون وتصرفوا على أساس من صحتهما، الأمر الذي كان له أثره المدمر على العراق الآن، إلا أن الذين يبالغون في نسبة الشيعة يلجأون إلى حيلة بسيطة لتأييد وجهة نظرهم فهم يضعون الشيعة في جانب، والعرب السنة في جانب آخر، والأكراد في مربع ثالث ومعهم التركمان.

وفي التقدير الإحصائي فإنهم يسقطون من الحساب الأكراد والتركمان ويتحدثون عنهم باعتبارهم فئة مغايرة من الناحية العرقية، وهذا صحيح، ولكنهم يغفلون في الوقت ذاته أن أغلبيتهم الساحقة من أهل السنة، وهذا الإغفال يؤدي تلقائياً إلى التقليل من نسبة السنة في العراق، في حين انهم إذا ضموا إلى السنة العرب، فإن التقدير الراجح أن نسبتهم ستصل إلى 55% في حين لا تزيد نسبة الشيعة عن 45% وحتى إذا ثار خلاف حول هذه النسبة، فالقدر المتفق عليه أن نسبة 65% للشيعة التي تحدث عنها الرئيس مبارك، ليست واردة في أي حساب للتركيبة العراقية. لقد تحدث الرئيس المصري عن الوضع الطائفي في العراق، وتحدث آخرون من المعلقين عن بروز الطائفية في المجتمعات العربية، لكن أصحاب هذا الرأي اكتفوا بانتقاد الظاهرة ولم يحاول أحد منهم أن يجتهد في الإجابة عن السؤال لماذا الآن؟

عندي سببان في محاولة تفسير الظاهرة أضعهما بين أيدي الجميع، أولهما يتمثل في غياب المشروع الوطني والقومي، الذي يستوعب طاقات الجميع من خلال الممارسة الديمقراطية، ويوظفها لصالح المجتمع، وهو ما ترتب عليه بروز الاتجاه إلى الانضواء تحت راية الطائفة أو الجماعة أو العشيرة، بعدما ضاقت أو غابت مظلة الوطن الجامعة.

السبب الثاني يتمثل في الدور الذي تقوم به القوى الأجنبية لتفتيت الأمة وشرذمة مجتمعاتها، بحيث تنفك رابطتها القومية، وتتحول إلى مذاهب وأعراق وجماعات متنافرة أو متناحرة، إعمالاً للمبدأ الشهير: فرق تسد.