الثوار ورجال الدولة.. حالة منظمة «حماس»

TT

كانت الصور التى نشرتها الصحف لأول اجتماع لمجلس الوزراء الفلسطينى مثيرة؛ أو على الأقل تخالف ما هو معتاد من صور منشورة لمجالس الوزراء في دول عربية. ولأول مرة سوف نجد أن جميع الوزراء في مواجهة جهاز محمول للكومبيوتر، بدلا من الملفات الثقيلة التي عادة ما ينوء بحملها وزراء مرهقون للإيحاء بثقل المسؤولية. وبشكل عام جاء المجلس الفلسطيني أكثر شبابا مما هو معتاد، حيث يتراوح سن ثمانية عشر وزيرا بين الأربعين والخمسين؛ وأكثر تعليما، حيث حصل اثنا عشر وزيرا فلسطينيا على درجة الدكتوراه. ومن المؤكد أنه أول مجلس وزراء عربي يضم ثوارا حقيقيين شارك خمسة منهم في عمليات عسكرية ـ جهادية أو إرهابية ـ بينما دخل معظمهم السجون الإسرائيلية، بسبب مشاركاتهم في حركة التحرير الوطنية الفلسطينية على اختلاف ألوانها وأعلامها، والغالبية منهم بسبب انتمائهم لحركة حماس.

وهكذا أصبح لدينا مثال كلاسيكي لحالة ثورية ـ جهادية ـ وقد وصل الثوار فيها إلى السلطة في بلد لا يزال محتلا وواقعا تحت السيطرة الفعلية للدولة الإسرائيلية؛ وهي حالة شبيهة بما جرى في عدد من الدول العربية، التي وصل فيها المجاهدون إلى السلطة، بينما كان سبب جهادهم باقيا وملحا. وفي عام 1924 شكل سعد زغلول أول الوزارات المصرية كنتيجة لثورة 1919، بينما كانت القوات الإنجليزية لا تزال تحتل مصر كلها ولديها من الامتيازات ـ وفق تصريح فبراير 1922 ـ ما يجعلها مهيمنة ومسيطرة بما لا يقل عن الامتيازات الممنوحة للسلطات الإسرائيلية، وفق اتفاقات أسلو فى الحالة الفلسطينية، ومن ثم فرضت واجب «المقاومة» خلال العقود الثلاث التالية. وفي العادة، فإن ثوار الأمس يبدأون تدريجيا في التحول إلى رجال للدولة، يكون عليهم القيام بمهمتين تاريخيتين هما الاستمرار في جهود التخلص من الاحتلال، وبناء الدولة التي سوف تمارس الاستقلال عندما يأتي.

ولكن الحالة الفلسطينية مع ذلك، تظل فريدة من وجوه عدة، ولكن واحدا منها يستحق الإشارة، وهي أنها ربما تكون المرة الأولى في التاريخ، التي لا يعترف فيها «المستعمر» (بفتح الميم) بشرعية وجود «المستعمر» (بكسر الميم)، فيكون المثال في مصر المحتلة هو إنكار شرعية وجود دولة المملكة المتحدة من الأصل. ويضيف فوز حماس الأخير إلى التميز الخاص للحالة، أنه لا يوجد حل للقضية إلا ويتضمن «عودة اللاجئين» إلى ديارهم، وهو ما يعني عمليا وضع نهاية للدولة العبرية، كما عرفها مؤسسوها والقائمون عليها، فلا ينتهي الصراع كما هو معتاد في الحالات الاستعمارية الأخرى بجلاء الدولة الاستعمارية، وإنما بالتغير الجذري لطبيعة هذه الدولة من الناحيتين الجغرافية والديمغرافية والسياسية.

هذه الحالة الفلسطينية الخالصة، ترجع إلى مجمل الظروف التاريخية المحيطة بالحركة الصهيونية والظروف التي أحاطت بالحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدايتها في العشرينيات. ولكن المهم ـ مهما كانت التفاصيل ـ أن حركة حماس أصبح عليها مواجهة واجبات معقدة واجهتها حتى الآن، بالهروب منها إلى معادلة غير قابلة للحل فترفض التعامل مع الإسرائيليين عمليا، لأنها لا تعترف بهم بينما تلقي عليهم المسؤولية عن حالة الجمود الحالية، طالما أنهم لا يطبقون قرارات «الشرعية الدولية»، فإذا ما طبقوها لا تكون هناك حاجة للتعامل من الأصل!

وبينما يقال ذلك تكتيكيا، فإن وجهة نظر حماس الاستراتيجية، والتي يعبر عنها عدد غير قليل من المتحدثين في الفضائيات العربية، فهي تقوم على عدد من الدعائم: أولها أن القيادة العالمية في التاريخ قائمة على التداول، وقد انهارت الامبراطورية السوفيتية، بسبب المجاهدين في أفغانستان ـ وسوف تلحقها الامبراطورية الأمريكية بسبب المجاهدين في العراق، بالإضافة إلى العوار الداخلي في الحضارة الأمريكية والتشقق الجاري في الاقتصاد الأمريكي الذي يشير إلى مديونية متزايدة. وثانيها أن هناك تصاعدا في القوى الدولية الأخرى، الصين واليابان وأوروبا والهند، بالإضافة إلى روسيا التي لا يزال لديها بعض من الأحلام الإمبراطورية القديمة ـ وبالتالي فإن الضعضة الخارجية للقوة الأمريكية النسبية سوف تضيف ضغطا على جروحها الداخلية المتصاعدة. وثالثها أن العالم قد تخلص بسرعة من مرحلة الهيمنة الأمريكية التي سادت مع التسعينيات، وظهرت علامات الثورة على النفوذ الأمريكي في حديقة الولايات المتحدة الخلفية في أمريكا الجنوبية ممثلة في حكومات اشتراكية وشعبية مختلفة، ولم تكن هناك صدفة في إعلان السيد خالد مشعل عن نيته في زيارة فنزويلا لمقابلة الثائر الجديد شافيز، لكي تتم إضافته إلى صف حلفاء حماس الذين يقع في مقدمتهم دولة إيران المتجددة الثورة تحت قيادة محمود أحمدى نجاد.

والخلاصة من هذا التحليل، هو أنه مع تراجع أحوال الولايات المتحدة، فإن أحوال إسرائيل تتراجع، وبالتالي تتغير موازين القوى وتسمح للحركة الوطنية الفلسطينية أن تحصل في المستقبل على ما لم تحصل عليه في الماضي. ومثل هذا التحليل لا يختلف كثيرا عن التحليل، الذي كان سائدا بين القوى الثورية العربية والفلسطينية خلال العقود القليلة الماضية، وهو تحليل يتسم بالرومانسية أحيانا، وأحلام اليقظة أحيانا أكثر، ويتخيل فيما وراء الأكمة ما لا وجود له. فالمديونية الأمريكية التى هي حاصل الفرق بين الاستثمارات الأمريكية في الخارج والاستثمارات الخارجية في داخل الولايات المتحدة تختلف كثيرا عن المديونية المعروفة لدول العالم الأخرى والقائمة على الاقتراض؛ وظهور القوى الدولية الأخرى لا يخفى علاقاتها العضوية مع الولايات المتحدة، كما لا يقطع بأنها سوف تأخذ موقفا من القضية الفلسطينية يختلف عن الموقف الأمريكى؛ وغير معلوم على وجه القطع، ما الذي سوف يفعله شافيز لتحرير الأراضى الفلسطينية بأكثر من عدد من التصريحات النارية أو التصويت على قرار في الأمم المتحدة، وهو الذي يبيع لأمريكا 20% من نفطه وتعتمد موازنته على عائد محطات البترول الفنزويلية في الجنوب الأمريكي.

ومع ذلك، فإن أفكار حماس عن الواقع الإقليمي والدولي مشروع تماما، فلم يحدث لحركة ثورية أن بنت تصورات لأعدائها تقوم على منعتهم؛ ولكن المسألة الآن هي أن حماس لم تعد حركة ثورية، وإنما صارت بالإضافة إلى ذلك مكلفة بمهام بناء الدولة وتحقيق ما لم ينجح الآخرين ـ فتح ـ في تحقيقه وهو تحرير فلسطين من الاحتلال، وربما الوجود الإسرائيلي. وفي مثل هذه الحالة فإن الحكام ـ ثوارا ورجال دولة ـ لا يملكون العيش في عالم من الأوهام التي لا وجود لها في الواقع، وحتى إذا صدقت فإنها سوف تصدق بعد آجال طويلة وربما بنتائج مغايرة تماما لما هو متوقع.

وفي التجارب التاريخية الأخرى تغلب بناء الدولة وتوفير شروط بنائها على الفكرة الثورية ـ الجهادية ـ فقبل لينين بمعاهدة بريست لتفسك خلال الحرب العالمية الأولى، لكي يقيم الاشتراكية في بلد واحد، وقبل مصطفى النحاس معاهدة عام 1936 لكي يثبت الوجود الدولي لمصر في عصبة الأمم قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، وقبل الأيرلنديون دولة دون شمالها، لأن المستوطنين الإنجليز جعلوا من أنفسهم أغلبية في هذه المنطقة، وقبل الماليزيون وجود سنغافورة القائمة على الاستيطان الصيني، لأن وجود دولة مزدهرة مجاورة، ربما لا تكون دوما شرا مطلقا. وبالطبع فإن من حق حماس أن تبقي على ثوريتها، ولكن التحرير والدولة الفلسطينية سوف ينتظر طويلا.. !