الهوية لا تموت .. لكنها قد تقتل ..!

TT

الثلاثاء الفائت كان لي شرف تلبية دعوة جماعة حوار بالنادي الأدبي بجدة، لتقديم ورقة بحثية عن الهوية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وكان اللقاء حافلاً جداً بالعديد من وجهات النظر المتباينة جداً، وقد ظهرت بشكل جلي في التعليقات التي تلقيتها حول الموضوع، لا سيما فيما يتصل بقضية الحدث ذاته، وفيما يتصل بمسألة الهوية والثوابت والحريات والفرق بين الرؤية الأمريكية ونظيرتها الأوروبية لمسألة الهوية وتداعياتها، ولا شك أن الباحث أحوج ما يكون إلى إثراء رؤيته من خلال طرحها على مشرحة النقد والحوار حولها مع شخصيات تمثل أكثر من تيار داخل المجتمع الواحد، وهذا قطعاً سيساهم ولو بشكل غير مباشر على عجن رؤية الباحث بطين الواقع، حتى لا يذهب بعيداً في تصوراته النظرية التي مهما بدت منطقية فقد تصطدم بصلابة وتكلس الواقع، وإلا فما معنى أن ثمة من لا يزال يشكك بمسؤولية القاعدة عن الحدث أو من يعتبر أن ثمة مؤامرة تحاك في الخفاء للزج بالإسلام السياسي.. الخ. بقاء مثل هذا «الحكي» ولو بصيغ وقوالب فكرية يعني أننا نعيش أزمة «عقلانية» حادة، فلا بأس أن نختلف في مسألة التحليل أو النتائج، لكن ينبغي أن تكون ثمة مشتركات تضمن الحد الأدنى من القواعد العقلية أو ما يسمى بالمبادئ الأولية عند أهل المنطق .

في هذا السياق كان الحديث منصباً على أحداث الحادي عشر من سبتمبر بكل ما شكلته من تداعيات سياسية وآثار اجتماعية واقتصادية أدت في جملتها إلى تبعات غيرت عالمنا المعاصر، إلا أن هذا الحدث خارج الإطار الإعلامي الذي دشنه كحدث كوني لا يمكن أن يكون سوى حدث رمزي فيما يخص قضية مركبة شديدة التعقيد كمسألة الهوية، التي نحاول أن نقرأ التغيرات التي طرأت عليها بعد هذا الحدث الرمزي الذي لم يكن منقطع الصلة عن أحداث ومخاضات سياسية وفكرية طويلة الأمد، لم يكن معها سوى تعبير أمين عن نقطة الغليان بين عالم متعدد الهويات.

خلال عقدين من الزمان تشكلت ملامح خطابات هوياتية جديدة ولد معظمها من رحم الصراع الآيديولوجي الذي خاضه العالم بعد انحسار الماركسية كبديل سياسي مع سقوط الاتحاد السوفيتي بشكل مدو ومفزع، ما حدا بظهور موجة من تصاعد الأصوليات التي خرجت من طور الاستخدام والتوظيف لتحل بديلاً عبر بوابة «الهوية القلقة» التي يشكل التاريخ الإنساني بالنسبة إليها التقدم المستمر باتجاه الأسوأ قياساً بصورة طهورية نمطية متخيلة يتم تأسيس كل المفاهيم الدينية المعاصرة عليها. ومن خلال هذا التصور الساذج للذات أو الهوية في حده الأدنى وللآخر أو الهوية باعتبارها تمايزاً ومغايرة له ظهر أسوأ ما في الثقافة المسكونة بهاجس الهوية المضطهدة ليصبح تفجير برجي التجارة في نيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر «غزوة مانهاتن».

ومع أن ثمة وجهات نظر متباعدة جداً في تفسير هذا الحدث بين فريق يرى أن 11 سبتمبر يشكل قطيعة كاملة مع ما سبقه في مجال العلاقات الدولية، بينما يرى الفريق الآخر من المحللين أن جزءاً كبيراً من الأهمية الاستثنائية أضيف قسراً على الحدث ليكون مؤشراً على قطيعة بين حقبتين في العلاقات الدولية، وذلك عبر وسائل الإثارة والمبالغة لخدمة الاستراتيجيات الخاصة من الدول المنتفعة منه، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تسعى إلى قطع الطريق على نشوء عالم متعدد الأقطاب، قائم على المشاورات المتبادلة والتعاون الدولي إلى سياسة القوة التي منحتها وصف الامبراطورية بامتياز .

من جهة أخرى تجدد الرهان التقليدي على مفهوم الدولة ومركزيتها بعد الحادي عشر من ستبمر، وذلك حين قفزت الأجندة الأمنية على حساب منظمات المجتمع المدني، حتى في داخل الولايات المتحدة، وإن بشكل مفاهيمي طرأ على مفاهيم الديمقراطية والتعددية الثقافية وحرية الأفراد، هذا بالإضافة إلى النكسة الكبيرة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي وانكماش الاستثمارات في القطاعات الحيوية.. إذن يمكن الحديث هنا عن تحولين مهمين دفع بهما الحادي عشر من سبتمبر:

الأول : التطوارت التي حدثت داخل الولايات المتحدة، الثاني : التحولات التي طرأت على طبيعة العلاقات الدولية من خلال التعاون الدولي القائم على الشراكة الأمنية والاقتصادية، من خلال تعديل الرؤية للعولمة كما يرى المحلل السياسي إغناسيو رامونه الذي رأى في الحرب على العراق وتداعيات 11 سبتمبر تصحيحا للرؤية التي سادت قبلها للعولمة، وكأن تعطى الأولوية للاقتصاد والثقافة الموحدة، بينما أعاد ملف الحرب على الإرهاب الميزان نحو عناصر القوة المرتبطة بالتفوق العسكري والنفوذ السياسي على حساب الاقتصاد والآيديولوجيا .

وقد ساعد على هذا السعي الامبراطوري، الفراغ الذي نجم عن انهيار الاتحاد السوفيتي، عدم القدرة على إعطاء التنازلات المادية والمعنوية مراعاة للأطراف الأخرى الشريكة في ظل التفرد بالقوة، وهذا ما كرسه الانتصار للمحافظين الجدد في انتخابات الرئاسة التي جرت في مطلع القرن الواحد والعشرين.

الحدث من هذه الزاوية باعتباره صراع هويات متطرفة يعيد إشكالية العلاقة مع الآخر وهو الغرب في الوجدان العربي المسيس، سواء بشقه القومي أو الإسلاموي، هذه الإشكالية التي لم يقل فيها جديد رغم مرور أكثر من مائتي عام على طرحها لأول مرة، على يد رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين ولطفي السيد وطه حسين وحسن البنا وسيد قطب وزكي نجيب محمود وسلامة موسى، وصولاً إلى المشاريع العربية الجديدة، كإعادة قراءة العقل العربي للجابري، والبحث عن مكونات عقلانية من داخل التراث كما هو الشأن في مشاريع حسن حنفي. ألا يعني هذا أن خطابهم الثقافي نفسه يعاني من مشكلات بنيوية كبيرة، فهو يظهر دعوات إلى الحرية والانفتاح العقلي والتنوير والتمدين والتقدم، لكنه يخفي بنية تسلطية دكتاتورية في المؤسسات والشخصيات الثقافية ذاتها، إن في أروقة الجامعات أو حتى على مستوى السجال الصحفي والحوار الثنائي مع الأطراف الأخرى .

الهوية في حدها الأدنى لا تموت ولا قلق بشأنها، أزمتنا الحقيقية في الهوس المرضي بالهوية، حين تتحول إلى عملاق متصلب تجاه أي قيم تحديثية للمجتمع .

[email protected]