«من بقك لباب السما»

TT

أغلب الناس في البلاد العربية والإسلامية تستهويهم السياسة، وأكثر مناقشاتهم ومناكفاتهم وتنظيراتهم إنما هي عنها، يفطرون ويتغدون ويتعشون ويتسامرون وينامون ويحلمون ويصحون عليها.. لا يتعبون ولا يملّون من الولوغ في بحارها الآسنة المتلاطمة، ومع ذلك فهم من أكثر شعوب الأرض تخلفاً وجهلاً وادعاءً، فلا كثرة أحاديث السياسة أطعمتهم من جوع ولا هي آمنتهم من خوف، في حين أن الغالبية العظمى من الشعوب المتقدمة، شغلها العمل والإبداع عن أحاديث السياسة.

والعبد الفقير لله تعالى، الذي يكتب هذه الكلمات المرتجفة المذعورة، هو من أقل سكان هذه الأرض عشقاً أو حديثاً بالسياسة، وليس معنى ذلك إنني قد أغلقت عقلي عن كل ما يدور حولي، لا أبداً، لكنني ربطت لساني عن الثرثرة في ما لا طائل منه.

وبين الحين والآخر، ترغمني الظروف على ارتياد بعض المجالس إما لمناسبة أو مجاملة أو للتسلية وتمضية الوقت، واكتشفت انه في الغالب سرعان ما تتحول الأحاديث إلى ميادين السياسة، وكثيراً ما أسأل عن رأيي، وكثيراً ما أصمت أو أغمغم، ليس لأنني أتعالى، لكن لأنني لا أريد أن أجر شكلاً، خصوصاً أن رأيي ومواقفي لا يستسيغها أو لا يقبلها الكثيرون. وقد حصرني أحدهم يوماً في (كورنر)، وكأنه يريد أن يستنطقني ويسحب الكلام من فمي سحباً، وكلما أمعن في إصراره، أمعنت أنا في سكوتي وابتساماتي، إلى درجة أنني رأيت خطاً أحمر يكاد أن يغطي بياض عينيه. وأعترف أنني لا يمكن أن أنكر إخلاصه، وكذلك حماسه وغيرته على أوطانه ودينه وأمته، لكن كل هذا هو بالتأكيد لا (يؤكل عيشاً)، عندما يوضع على محك الواقع.. إذن ما قيمة ذلك (التوتر العالي)، وذلك (الضغط الأعلى)، إذا كان ذلك كله مجرد كلام بالهواء؟!

ولا شك أنني سعدت بمثال ضربه لي لكي يقنعني بوجهة نظره، طبعاً سعدت بتلك الوجهة وليس شرطاً أن أكون مقتنعاً بها خصوصاً حينما كان للخيال الكعب المعلى فيها.

وهو بالمناسبة متحمس جداً للقضاء على دولة إسرائيل على مبدأ أن شعوب الدول العربية والإسلامية لو أنها سارت وزحفت بمجرد الأقدام واجتازت الحدود لأغرقت وقضت على إسرائيل، وضرب لي مثالاً (لطيفاً وساذجاً) ـ وهو يؤكد أن ذلك حصل فعلياً ـ وهذا المثل كالتالي: إن هناك زوجاً من عصافير السنونو الصغيرة أنشآ عشهما فوق أحد الأغصان، وفي يوم عندما رجعا، وإذا بعصفور إنجليزي سمين قد استولى على عشهما سلباً ونهباً، لكنهما لم يستطيعا إخراجه أو زحزحته، وتركاه وطارا ثم عادا ومعهما مدد مكون من عشرين عصفوراً آخر من فصيلتهما، وهجموا على العصفور الإنجليزي وانتهت محاولتهم بالفشل، فذهبوا، وبعد ساعتين عادوا بأسراب هائلة غطت العش بمظلة صنعتها من أجنحتها المرفرفة، وبعد دقائق ذهبت، وإذا بفوهة العش كلها مطموسة بالطين، وبعد شهور من تلك الحادثة هبّت عاصفة ممطرة فسقط العش من مكانه وتحطم وإذا بجثة العصفور الإنجليزي محنطة وساقطة على الأرض.

وعندما انتهى سألته: يعني هل تريد من الشعوب العربية والإسلامية أن يفعلوا مثلما فعلت عصافير السنونو؟!، قال لي: نعم وبالفم المليان، قلت له: من بقك لباب السما، أما أنا فدوري سوف يقتصر على كنس الأرض وتنظيفها من بقايا العش.

[email protected]