الملكة اليزابيث في عيدها الثمانين

TT

كان امس الجمعة عيد الميلاد الثمانين للملكة اليزابيث الثانية، وهي رأس دولة المملكة المتحدة ومجموعة الكومنولث.

رعايا جلالة الملكة شعوب تتحدث مختلف الالسن وتدين بعديد من الأديان بينهم مئات الملايين من المسلمين، اغلبهم في بلدان ديمقراطية نيابية على نمط وستمنستر، تتبدل حكوماتهم بالانتخابات الحرة مما ينفي التناقض بين الإيمان بالإسلام دينا والديمقراطية التعددية مذهبا، وصلاحية النظام البرلماني الدستوري الملكي كخيار للمسلمين الاحرار في الفيدراليات التجمع التحالفي كالكومنولث.

ولأكثر من ثلاثة وخمسين عاما نظرت شعوب الكومنولث الى الملكة اليزابيث الثانية كأم حنون تبسط رعايتها عليهم، ومصدر قوة وثقة بالنفس وبالخيار الديمقراطي، وكرمز للحرية وسد منيع امام عواصف الديكتاتورية والغوغائية المصاحبة لمعظم النظم الجمهورية، وتتطلع هذه الشعوب لزيارتها السنوية كعيد قومي تخرج فيه الآلاف لاستقبالها.

بلغت الزيارات الرسمية الخارجية للملكة قرابة 140 لجميع دول الكومنولث ومعظم بلدان افريقيا، والجامعة العربية. لها بروتوكولها الإنساني المتميز، كالسير بين الناس، وتلقي الزهور من الأطفال، وحديثها معهم ليس مجرد تحية عابرة، وإنما تصغي لهم وتجيب على اسئلتهم، الى جانب استقبالها لعشرات من رؤساء الدول والملوك في زيارات الدولة، والزيارات الرسمية.

الملكة اليزابيث من الزعامات النادرة التي لعبت دورها بالنسبة للامم العريقة في فترات حرجة من تاريخها، وهي ليست زعيمة سياسية غوغائية الشعارات او تركب موجة جماهيرية طمعا في اصوات انتخابية، بل هي مصدر الهام للامة لإعادة الثقة، وكمفجر للطاقات الإبداعية التي تعجز الزعامات السياسية الحزبية عن اطلاقها.

وجد الامير جورج، أبو الملكة اليزابيث الراحل، وهو الشاب الهادي الخجول الذي لا يحب الظهور، وجد نفسه بين عشية وضحاها مسؤولا عن تاج امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، فأخوه الأكبر الملك ادوارد لم يكمل على العرش عاما حتى وقع في غرام المطلقة الأميركية واليس سيمسون، وإذا كان المجتمع البريطاني عام 2006 قد انقسم حول زواج ولي العهد الامير تشارلز، المحبوب شعبيا وجماهيريا، من المطلقة كاميلا، والذي تم مدنيا «وبورك» فقط في الكنيسة، التي تحرم الطلاق، فلتتصور الرفض القومي قبل سبعين عاما لزواج الملك، وهو رأس الكنيسة، من مطلقة أميركية.

تغلبت عواطف ادوارد واختار سعادة قلبه قبل الواجب الذي ولد من اجله واقسم العهد على الحفاظ عليه مرتين، مرة عند بلوغه سن الرشد كأمير لويلز، ومرة عند تتويجه، قرر التخلي عن العرش وكانت ازمة دستورية. لكن الشعب ايد خيار مجلس اللوردات لتكليف جورج بمسؤولية العرش.

وفجأة انتقل جورج من مسكن مريح بسيط في بيكاديللي الى قصر باكنجهام، ووجد تاج الإمبراطورية، بمسؤولياتها الضخمة التي ترحم يثقل رأسه.

وانتهت الى الابد الحياة البسيطة لابنة العاشرة اليزابيث، ابنة العاشرة، وبدأت سلسلة لا تنتهي من المسؤوليات التي يحملها الأمراء والملوك على اكتفاهم مع يوم عمل مشحون يتجاوز مرة ساعات العمل اليومي لأبسط عامل، والاحتفاظ بابتسامة دائمة للجميع، ومصافحات تحطم في كثرتها قبضة الملاكم محمد علي.

وهل كان سيستطيع ادوارد العاطفي، والأميركية واليس الحفاظ على الروح المعنوية للأمة ولشعوب الامبراطورية لو كانا في قصر باكنجهام اثناء الحرب الثانية.

فالملكة اليزابيث الأم التي القت بها الأقدار الى آتون الواجب العلني، لعبت دورا لا مثيل له في تعبئة الروح المعنوية للشعب، في الوقت الذي وقفت فيه بريطانيا وحدها تحافظ على ما بقي من الحضارة والحرية والديمقراطية، فلم تكن أميركا قد دخلت الحرب بعد، وبعد دنكرك لم يفصل بريطانيا عن الغزو النازي سوى سبعين ميلا من مياه القنال الإنجليزي واللوفتوافا تدك لندن.

كان الملك يبث كلمات الصمود، عبر «بي بي سي» الى الإمبراطورية، بينما تتجول زوجته يوميا بين ما هدمته القنابل في افقر مناطق لندن، ولا يزال الدخان يتصاعد منها لتمسك بيد النساء والكهول ـ فقد كانت اغلبية الرجال تحارب في الجيش، والنساء والكهول يديرون البلاد ـ من دون ان تفارق الابتسامة شفتيها.

وخلافا لنصيحة مستشاريها، كانت تتحلى بمجوهراتها الباهظة الثمن وملابسها الأنيقة والماكياج قائلة «إن الفقراء سيرتدون افضل ما لديهم وتتزين نساؤهم اذا اتوا لزيارتها». وكان لذلك وقع السحر في اقتداء الشعب بها وعدم السماح لقنابل اللوفتوافا بتغيير نمط حياتهم. ورغم ندرة المواد الاستهلاكية، تجملت نساء بريطانيا وتزين فور الانتهاء من تنظيف اثار الغارات وسخرن من هتلر، استعدادا لمواجهة قنابل الليلة التالية بابتسامة انجليزية باردة.

كانت سنوات الحرب العجاف، فترة التدريب العملي للاميرة اليزابيث على الدور الذي يعده القدر لها تراقب اداء امها لواجب رفع الروح المعنوية، واختلطت الاميرة اليزابيث بالشعب والجنود في فترة الحرب، ورقصت فرحا في ميدان الطرف الأغر مع الاف من فتيات بريطانيا، بانتصار حضارة الملكية الدستورية على همجية الاشتراكية القومية( النازية).

ومرة اخرى انتزع القدر حق الحياة الخاصة من الأميرة اليزابيث وعريسها الشاب الأمير فيليب، وتمتعهما بالطفلين آن وتشارلز.

اختطف الموت الملك جورج وهو في السادسة والخمسين بينما كانت اليزابيث وفيليب في اجازة في افريقيا، ورغم ذهول الصدمة وتحديقها لساعات صامتة من نافذة طائرة خدمات ما وراء البحار BOAC تعلمت اليزابيث كيف تحتفظ بأحزانها في قلبها، لان ابتسامتها وكلماتها اصبحت كلها ملكية عامة، وقبلت التاج والمسؤولية الجسيمة لرعاية الإمبراطورية.

ولأكثر من نصف قرن، ظلت الملكة اليزابيث الثانية الأساس الذي تقف عليه الدستورية الشرعية القانونية وفي عهدها اصبحت الديمقراطية أكثر قوة ورسخا ومتانة.

الملكة تقضي واقفة على قدميها مدة اطول ما يقضيها جندي الجيش في الميدان، ساعات طوال تستقبل الرسميين ورؤساء الدول والضيوف في عدد لا يحصى من الحفلات الخيرية، وتجوالها في المستشفيات والمؤسسات الخيرية، عدة مرات في اليوم.

اما الملفات والتقارير التي تقرأها الملكة يوميا، فأكثر مما يدخل مصلحة كاملة في اسبوع، فقرارات البرلمان لا تصبح قوانين الا بتوقيع الملكة، ونصوص القانون في حجم كتاب، وجلالتها لا توقع الا بعد قراءة كما تتلقى ايضا نصوص قوانين من برلمانات كندا واستراليا وغيرهما، والى جانب لقائها الاسبوعي مع رئيس الوزراء ليطلعها على كل كبيرة وصغيرة ـ وقد اختبرت في عهدها عشرة رؤساء وزارة ـ فهي القائد الاعلى للقوات المسلحة، ورئيس الكنيسة، وصاحبة الثروة السمكية والحيوانية البحرية والغابات والموارد، أي المسؤول عن البيئة بما فيها المياه الاقليمية لبريطانيا، وهي رئيس عدد لا يحصى من المؤسسات الخيرية القومية والعالمية. والملكة تقرأ كل شيء قبل التوقيع عليه، وتفتح بنفسها ما بين 10% الى 15% من الخطابات التي تصلها خاصة من تلاميذ المدارس والأطفال، وترد عليها بخط يدها.

فأي رئيس دولة «منتخب» يمارس جدول العمل اليومي البالغ القسوة ذهنيا وبدنيا، بينما يظل يحتفظ بالابتسامة «الملكية» وروح الدعابة التي تتمتع بها الملكة اليزابيث؟

إن الملكة اليزابيث وقوتها وصمودها لخير دليل على ان مستقبل الديمقراطية وحرية الشعوب وازدهارها يمكن أن يكون في ظل الملكية الدستورية، وكل عام وهي طيبة.