اللامنطق في العقل السياسي العربي

TT

عندما أدخل الأميركيون على صدام، بعد اعتقاله، أحمد الجلبي وعدنان الباجه جي مع لفيف من ساسة العراق الجدد، التفت صدام إلى الباجه جي قائلا: ما الذي أتى بك أنت بالذات مع هؤلاء الـ «...»؟

حقا، الباجه جي غير «هؤلاء». ديمقراطيته الصادقة وعروبته الهادئة توحيان بالاحترام. عدنان نزيه كأبيه مزاحم. كلاهما تعرض لظلم كبير. أتت رئاسة الحكومة الأب متأخرة. لم يكن في وسعه أن يفعل شيئاً. كانت ديمقراطية النظام الهاشمي في الخمسينات العراقية قد شاخت، وأصيبت بجفاف العروق.

الابن عدنان الذي كان وزيرا للخارجية في الستينات عاد إلى العراق شيخا فوق الثمانين. أخشى أن أقول إن سنه المتقدمة تظلمه أيضا. خطفوا منه رئاسة الجمهورية وهو يغط في النوم خلال المداولات. ها هو يصحو فجأة ليخالف المنطق والواقع في انضمامه إلى «هؤلاء» في هجمتهم الشعواء على الرئيس مبارك!

قال الرئيس مبارك إن العراق في حالة حرب أهلية. قال إن ولاء «بعض» الشيعة العرب لإيران أكثر من ولائهم لدولهم. قال: «لو كان صدام عادلا في تصرفاته ما كان جرى الذي جرى». الكلام صريح وجريء وخطير لتنبيه العرب والعراقيين سنّة وشيعة. لكن أليس هو الواقع الذي أنكره فورا طالباني والجعفري والباجه جي؟!

الحب غير الاحترام. هالة الاحترام قد تهبط من مكانها قليلا لتغشى العيون. ما زلت أحب الباجه جي، لكن سيدي رئيس السن، إن كنت تدري ما الذي يجري في بلدك فالمصيبة عظيمة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم. للسياسة قناع يستعيره السياسي لاعب البوكر لتغطية وجهه كيلا يكشف «البلف» في الواقع المحسوس. هذه المكابرة في النفي والمغالطة هي بنت اللأمنطق الذي كان دائماً سيد العقل السياسي العربي.

أزمة العقل العربي هي أزمة التاريخ الذي بُني على التمجيد والتعظيم، بحيث توهمنا أنه جزء من ثوابت المقدس الذي لا يمس. لم نكتب تاريخنا بالبحث العلمي المجرد، لنعرف بالعقل، ولندرس ونتعلم بالمنطق ما هو صحيح فيه، وما هو تحريف ومبالغة ووهم.

أزمة العقل العربي في الحاضر هي أزمة التلقين في التعليم الذي أنتج عقل الظواهري وابن لادن. هي أزمة إسقاط السياسة مع إسقاط الحرية التي «قولبت» ديمقراطية مزيفة ومزورة. هي أزمة الآيديولوجيات السياسية والدينية والطائفية التي أنتجت إما أجيالاً خائبة الأمل، وإما أجيالاً تعتقد أن الدين هو سياسة العنف والتكفير والانتحار.

وهكذا، صيغ العقل العربي حاضراً وماضياً على إنكار الواقع، والمعاندة في التمسك بمواقف ومزايدات أدت وتؤدي في تشنجها إلى كوارث على الأمة العربية، بحيث نضطر إلى أن نقبل ونطالب بما كنا نرفضه أمس. من هنا، يأتي أي نقد ومراجعة كصدمة مذهلة للعقل التقليدي، وكتحدٍّ للمنطق المألوف، يستحيل معهما تحقيق تغيير يتفادى الكارثة.

كلف الجعفري وزيره زيباري استيضاح وزير خارجية مبارك! لم يجرؤ المرشح لرئاسة الحكومة في العراق أن يستوضح أميركا وإيران عن مصير كيان بلده وعروبته، في المساومة الثنائية المقبلة بينهما. الجعفري قفز فجأة ليتهم مبارك «بالتشهير بالعراق» وهو العاجز منذ نحو أربعة شهور عن تشكيل الحكومة الجديدة، لأن مرشحي إيران مخهاتف في ما بينهم. تذكر الجعفري لأول مرة «عروبة العراق» فمنع وزير خارجيته من الالتحاق بوزراء خارجية العرب وهم يهمّون ببحث شأن العراق، فيما الاتهام موجه إليه بالتغاضي عن كبح الميليشيات التي تمولها إيران، عن تصفية المدنيين الأبرياء على الهوية.

لماذا يعتذر مبارك؟! لأن العقل العربي تعود أن يتحدث الزعماء والرؤساء عن رؤوس المواضيع، لا عن التفاصيل. لم يألف المنطق التقليدي أن يتحدث رئيس عربي وهو جالس كمواطن عربي عادي يتكلم على سجيته. أشعر بأن مبارك تحدث، في أهم أحاديثه إطلاقاً، لا كرئيس، وإنما كأب كبير وكزعيم لأكبر دولة عربية له حقه في النصح والعتب والتأنيب والتحذير. له أن يصيب فنشكره، وله أن يخطئ فنتسامح معه.

«حماس» أنموذج آخر للأمنطق وللاواقع في العقل العربي. في الأسبوع الماضي، أطلقت منظمات الجهاد والنضال من غزة 27 صاروخ قسام عابراً «للقارات». سقط 15 بالونا منها برداً وسلاماً في «إسرائيل». طاشت البقية فعادت أدراجها إلى مطلقيها أو سقطت في البحر. انتقمت إسرائيل «لخسائرها» فتصيدت 16 فلسطينياً بينهم أطفال.

السلطة مسؤولية. لام إسماعيل هنية إسرائيل. كان عليه أن يمارس مسؤوليته في بذل جهد لإقناع المسلحين بالكف عن إطلاق البالونات. كان عليه أن يعلن أن معركة الفلسطينيين هي اليوم في الضفة وليست في غزة المحررة. ما دامت «حماس» مصممة على ممارسة السلطة والمقاومة معا! فعليها أن تعد العدة للمواجهة المصيرية في الضفة التي يجري ابتلاعها بالاستيطان والجدران والطرق الالتفافية.

السلطة في لعبة الأمم تفرض المساومة في السياسة، لإحراج الخصم والعدو. لكن مشعل الملتهب في طهران يحرج هنية والزهار المحاصرين في غزة، بلاءاته: لا اعتراف. لا مسالمة. لا إقرار للاتفاقات المعقودة. في غمرة الصراع المصيري، ينهمك وزير ثقافة «حماس» في إقناع موظفاته بالتحجب، وربما بالجلوس في البيت.

هوشيار زيباري لا يختلف عقلا ومنطقا عن طه ياسين رمضان. نصح مبارك بالسماح للمفتشين الدوليين بتفتيش قصور صدام. رد العقل الصدّامي: هذه إهانة لكرامتنا. قال مبارك لرمضان ساخرا: إذا قصفها الأميركيون أليست إهانة؟ لما يخشّوا يضربوا البلد أليست إهانة؟

زيباري في الديبلوماسية يبدو أهدأ وأرق من رمضان. لكن المرء يصاب بالدهشة عندما يذهب وزير خارجية العراق إلى علي عبد الله صالح ليطالبه بـ «اجتثاث» ألف عراقي بعثي لجأوا إلى اليمن! كان الرئيس اليمني مهذباً لم يوبخ الوزير، إنما اكتفى بمغادرة المكان.

لا أدري بأي عقل ومنطق يطالب وزير خارجية رئيس بلد عربي بطرد ضيوفه العرب اللاجئين؟!. اجتثاث البعث شعار رفعه أحمد الجلبي. جرى تسريح عشرات الألوف، وربما مئات الألوف الذين أجبرهم واقعهم الوظيفي والاجتماعي على الانتساب لحزب السلطة، من دون القيام بأي نشاط فيه. بديهي أن تفرض ديمقراطية الميليشيات مبدأ «الاجتثاث» والاستئصال، بدلا من السعي سياسيا لاختراق البعثيين، وتشجيعهم على استنساخ حزب قومي ديمقراطي جديد بعيد عن جلاوزة صدام. ها هو الجلبي نفسه قد تم «اجتثاثه» في الانتخابات. لكن العقل العربي غير قادر على فهم واستيعاب انحراف هيئة حزبية ما. ولا يعرف أن أحزاب الآيديولوجيا التاريخية تتراجع، لكن لا تموت.

المنطق يفرض على سورية أن تغادر لبنان نهائيا. النفوذ «الأخوي» لا يتحقق بوصاية ضباط المخابرات. تحقق الانسحاب العسكري. العقل مطالب بممارسة الحكمة في التعامل السياسي مع اللبناني شديد الاعتزاز بحريته، والمفاخرة بفرديته. ما زال المنطق بحاجة إلى جواب سوري مقنع في قضية الحريري. لا يمكن الاستمرار في الرهان على نسب الجريمة إلى... الطليان.

العقل منطق وحكمة. أشعر بأن الإعلام العربي يفقد منطقه أحياناً في هذا التشنج المغالي في غوغائية النقد، أو الإمعان في زيف المديح والتفخيم، ثم في هذه العقلانية «العلمانية» المفتعلة التي تطالعنا بها أقلام في صحافات عربية مختلفة، للبرهنة على «تحررها» من الهوية القومية والتراثية.