إسكندرية... ليه

TT

الاسكندرية تشتعل طائفيا. الاسكندرية نافذة مصر المشرعة على فضاءات البحر الابيض، الاسكندرية عنوان مصر الابهى على التحضر.

شاب مصري، قالت السلطات المصرية انه مختل عقليا، هاجم عدة كنائس في الاسكندرية بالأسلحة البيضاء، لقي فيها قبطي مصرعه بينما أصيب آخرون، يوم الجمعة الماضي، لتندلع مواجهات دينية، ومازالت، وقد سقط فيها بعض المسلمين ايضا. والخشية ان تتحول هذه الاحداث الى «انفجار قاس ووشيك»، كما حذر القمص مرقص عزيز خليل، كاهن الكنيسة المعلقة في مصر، قائلا «اتق شر الحليم». متهما كتّابا اسلاميين مصريين يكتبون في الصحف الاساسية في مصر بإثارة المسلمين ضد المسيحيين. كما في حواره مع فراج اسماعيل في «العربية نت».

لا نستطيع تصديق الرواية الرسمية ان الفاعل معزول ولا يعبر عن أزمة عامة، واختلال أشمل يتجاوز الشاب الذي فجر الأزمة، ولم يخلقها من العدم.

هذه الصدامات الدينية ليست الاولى في تاريخ «الكنانة» الحديث، فقد بدأت مشكلة العنف الطائفي في مصر عام 1972 بحادثة الخانكة وحادثة الزاوية الحمراء، وأحداث متعددة بعد ذلك وصولا إلى الثمانينات، حيث اضطر السادات في عام 1977 إلى الاعتراف بوجود أزمة طائفية في أعقاب إحراق إحدى الكنائس بقرية في الفيوم. واستمرت حلقات المواجهة القبطية ـ الاسلامية في مصر بعد أحداث قرية الكشح بمحافظة سوهاج عامي 1999 و2000.

أحداث اخرى مثل احداث سمالوط، وأزمة جريدة «النبأ» وفضيحة صور راهب دير المحرق، وقضية اسلام المرأة القبطية وفاء، زوجة أحد الرهبان. اما الإسكندرية فقد شهدت قبل عدة اشهر أزمة بكنيسة مارجرجس على اثر توزيع الكنيسة قرصا مدمجا يحوي مسرحية بعنوان «كنت أعمى والآن أبصرت»، وتحكي قصة مسيحي أسلم ثم عاد للمسيحية باعتبارها الأفضل. وهو ما اعتبره المسلمون إساءة لهم فخرجوا على أثرها في مظاهرة قتل فيها البعض...

أن تحصل هذه الصدامات في صعيد مصر، فربما كان ذلك «مفهوما»، بسبب ان الصعيد معقل الجماعات السلفية المتشددة، لكن أن يصل سرطان التعصب الديني الى الاسكندرية، حديقة مصر الاجتماعية، ومينائها الاشهر منذ بناها الاسكندر المقدوني 332 قبل الميلاد، فهذا يعني أن المجتمعات العربية تنتحر!

الاسكندرية... المدينة التي تغنى بها يوسف شاهين، باعتبارها رمز الوحدة المصرية، وقدمها كعريضة دفاع ضد اتهام المصريين والعرب بالتعصب الديني والقومي في فيلمه «اسكندرية نيويورك» الذي يبدأه، ملمحا لنفسه، بدعوة تكريم توجه للمخرج المصري من امريكا فيرفضها احتجاجا على السياسة الامريكية، ثم يذهب وهناك يرد بحدة على صحافيي امريكا مدافعا عن صورة المصريين المتسامحة، مستدلا بمدينته الاسكندرية التى ترحب بكل الجنسيات والأديان. ويقدم للحاضرين ثلاثة من أصدقائه وزملاء الدراسة، مسيحي ومسلم ويهودي، مؤكدا على تسامح وتعددية مصر.

كل هذه الصور، تنحر الآن في فضيحة الاسكندرية الطائفية، وفي العراق ايضا، وربما في لبنان قريبا...

واذا عدنا الى مصر لنسأل: من يتحمل إثم التعصب الطائفي والديني؟

هل هي الدولة، كما يقول البعض عن سياسة السادات السابقة في مغازلة التيارات الاصولية معتبرين ان ما نراه اليوم مجرد حصاد لبذار السادات؟! هناك من يرى ذلك، ولكن يبدو ان الامر اكثر تعقيدا، فنحن ازاء حالة انسلاخ عن الدولة الوطنية، وتكور في احضان الطائفة والعرق.

اعتقد أن المشكلة، مشكلة التعصب الديني المزدهر هذه الايام، هي مشكلة مركبة ومعقدة، جزء منها يعود، كما يقول برهان غليون الى ان الاحزاب والتيارات الدينية، الآن، او التيارات القومية قبل غزو صدام للكويت، اصبحت هي «البديل التعبوي»، بسبب فقدان الشارع العربي الأمل في إعادة بناء الدولة السياسية الحديثة، وان هذه الجماهير من اجل ذلك تراهن على: «إحياء الروابط التقليدية القائمة» وتحتمي بها.

لكن لماذا نرى أحيانا أن من معززي هذه الراوبط الفرعية، والساعين الى رفعها لمستوى الانتماء الوحيد والنهائي والمناقض للانتماء الوطني، لا المكمل له، أن من هؤلاء أناسا من داخل النظام السياسي نفسه، او مسؤولين في مؤسسة العمل السياسي الحديث.

مثلا «البرلمان»، عوض ان يصبح مرآة تعكس الاعتداد القاطع بالهوية الوطنية، يصبح نصيرا لنقيض ذلك.

ففي مصر، الاخبار تقول ان لجنة الشؤون الدينية بالبرلمان المصري في اجتماعها أمس، برئاسة الدكتور أحمد عمر هاشم، وحضور الدكتورة زينب رضوان، وكيلة البرلمان، قررت بالإجماع إلغاء وثيقة الحقوق الدينية الموقع عليها من مجموعة قساوسة، والشيخ فوزي الزفزاف وكيل الأزهر السابق، وعدم الاعتراف بهذه الوثيقة التي وصفها أعضاء اللجنة بأنها مشبوهة وتدعو إلى الردة، وأنها خيانة!

لماذا؟! وماذا قالت الوثيقة؟!

الوثيقة تقول: «نؤمن بحق كل فرد في الإيمان بأي دين يشاء، وأن لكل إنسان، رجلا كان أو امرأة، حقا مقدسا في اعتناق، أو رفض اعتناق دين من الأديان، من دون التعرض لأي أذى من قبل أي جهة دينية أو سياسية».

وهكذا نرى البرلمان، وبحماسة من رجل دين رسمي، ومقرب للسلطة، مثل عمر هاشم، ينتصر للانغلاق ويحارب وثيقة تسعى لتكريس التسامح الديني، مما يعني ان هناك علة مشتركة تضرب الجميع، من اسلاميين مسيسين الى رسميين في العالم العربي.

وللمفارقة، فإنك إذا أردت ان تظفر بقبس من انوار المستقبل، فيجب عليك ان ترحل عن وحل الحاضر وزيفه، ميمما نحو ديار الماضين، وافكار الغابرين، هناك ستجد اشياء تدهشك من التسامح والانفتاح، أكثر من أهل الحاضر الذين لا حداثة أدركوا، ولا أصالة، كما يزعمون، حصّلوا!

وهنا دعوني احدثكم عن عالم جليل، وسياسي داهية، ومحارب شجاع... وشيخ «عارف» بالله.

إنه الأمير عبد القادر الجزائري (توفي 1883)، الذي نازل الفرنسيين في «وهران» الجزائرية سنين طوال، وأسر منهم، ثم أسروه، وانتهى به المطاف ضيفا على بلاد الشام، يؤلف في شرح محي الدين بن عربي، ويفسر القرآن.

في دمشق، وتحديدا في سنة 1860، اندلعت فتنة دينية كبرى بين المسلمين والمسيحيين، لم تلبث ان تحولت الى حملة مطاردة واسعة للمسيحيين، وبدأ الذبح على الهوية، عندها ركب الامير عبد القادر، ووقف يصرخ بين الجموع، بكل جلاله وهيبته، متحديا العوام الغاضبين: «الأديان أجل وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش». (عبد الباقي مفتاح، حوليات التراث، الصادرة عن كلية الآداب والفنون ـ جامعة مستغانم، العدد 40، سبتمبر 2005).

اذا كان هذا الموقف قد أعجبكم، خذوا ما هو أجمل، كما يذكر الباحث مفتاح. فإمام الطريقة النقشبندية، الشيخ شامل (توفي 1871)، والذي «جاهد» ضد الروس 30 سنة، ثم سجن، يرسل الى عبد القادر، وهو في سجن الروس، رسالة يهنئه ويشكره فيها على دفاعه عن نصارى الشام لما ظلموا. ويجيبه الامير العالم شاكرا، ومن ضمن ما قاله في رسالته: «إناّ لله وإنا إليه راجعون على فقد أهل الدين، وقلّة الناصر للحق والمعين، حتى صار يظن من لا علم له أن أصل دين الإسلام الغلظة والقسوة والبلادة والجفوة».

وفي نفس الموضوع يكاتبه أسقف الجزائر «بافي»، شاكرا صنيعه، فيجيبه الأمير برسالة يقول له فيها: «ما فعلناه من خير للمسيحيين، ما هو إلاّ تطبيق لشرع الإسلام واحترام لحقوق الإنسان».

ومن هذه الجملة الاخيرة، حقوق الانسان، نُمسك بـ«السر» الذي يوجه مثل هذه التصرفات من هذا العالم المحدث المتصوف، وهو الايمان العميق بفلسفة الحب، بل ان عبد القادر كان يرى أن الناس، كل الناس، متروكون لله في شأن اختياراتهم الدينية، حتى ولو في أصول العقائد، ويقول في «مواقفه»، حسب سرد الباحث الجزائري، شارحا حديثا نبويا في صحيح البخاري وغيره: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد». يقول الأمير عن الحديث إنه: «أعمّ في الحاكم المجتهد في الفروع الشرعية، أو الأصول العقلية الاعتقادية، إذ لا فرق بينهما عند العارفين بالله تعالى، أهل الكشف والوجود، فإن كل واحد من المجتهدين في الفروع والأصول فعل ما كلف به، وبذل وسعه، فوصل إلى ما أداه اجتهاده».

كان عبد القادر الجزائري يتمثل، وهو يشرح قواعد التلاقي الانساني، ويحاول بناء جسور التواصل بين ابناء الأسرة الانسانية الواحدة، بوصفهم يبحثون عن حقيقة واحدة، كان في ذلك يتمثل فلسفة الحب التي أطلقها من قبله شيخه ابن عربي، وقد دفن الجزائري بجواره في دمشق. ابن عربي الذي هتف قبل مئات السنين:

أدين بدين الحب أنى توجهـت...

ركائبه فالحب ديني وإيماني

لكن، ومنعا لتضخم البياض الكاذب، فإن امثال عبد القادر الجزائري، ندرة في تراثنا، مسورون بأسلاك التصنيف والتضليل، ولكن لا بأس، فالنادر هو الاغلى.

ومن هنا.. من فلسفة الحب، وميناء التواصل الانساني نسأل الاسكندرية، اسكندرية البحر المفتوح على كل شيء: هل غادرتك ركائب الحب أنت ايضا؟!

[email protected]