نزاعات ساسان وبني غسان

TT

شاكيرا تكرّم في الأمم المتحدة، وعشرات الفنانين كانت اليونسكو قد سحبتهم إلى خيمتها لتستفيد من نجوميتهم، ولو كانت الجامعة العربية استدعت هيفاء وهبي، لكانت الفضيحة قد وقعت. لا بد إذاً في الذهنية العربية ان تبقى تسير على صراط من قبلك، حتى يتآكلك العث، وتتعفن في أرضك. الجرأة والخروج على المألوف، هي بعض من أسرار تطور الحياة، وقد فشل العرب في امتحان الجرأة، لكنهم نجحوا في اختبار الوقاحة حتى أصبحوا شيئا منسياً.

كان مذهلاً أن تسمع بعض مشاهدي إحدى الفضائيات العربية من المصريين، يعترضون على التبرع للفلسطينيين الذي سيتهاوون جوعاً، بعد أيام، ان بقيت حالهم على ما هي عليه، بالقول إن عليهم أن يكفوا جوعاهم، أولاً، في ما يحذر الأميركي توماس فريدمان من مخاطر ترك الفلسطينيين نهباً للعوز، ومثله يفعل الكثيرون من غير العرب وبينهم إسرائيليون أيضاً. وما يجعل مصريين، لا يتنبهون إلى كارثة وقوع الجيران في محنة قاتلة، وعلى شاكلتهم غالبية العرب، ليست الوطنية أو معاداة السياسة «الحماسية»، وإنما ضيق أفق الرؤيا.

وكانت أمة الضاد، قد نظرت من ثقب صغير جداً إلى إيران، يوم وصل الخميني إلى الحكم، ولم تر فيه سوى مصدّر للثورة الإسلامية، ومستنهض للحركات الأصولية. وبالتالي تحول صدام إلى فادي الأمة وهجم بمغاويره على الفرس وهزمهم وجرّعهم سم الاستسلام، وتحول من حينها الى غول يبتلع كل ما أمامه. وباقي القصة يعرفها الجميع، والنتيجة ان العراق الذي يتوسط الخارطة العربية، يتفتت كالبسكويت ويحار من يلتهم فتاته. لكن والأهم من ذلك كله، أن الثورة الإيرانية عادت منتصرة بعد ربع قرن ومعها اليورانيوم المخصب، و«حماس»، وكل المتشددين الإسلاميين الذين صاروا تيارات يصعب تجاهلها من المحيط إلى المحيط. وهكذا فإن قلة حيلة العرب وضعف بصيرتهم، انتجت تأخيراً طفيفاً للمد الثوري الإيراني، وخراباً انتحارياً على مد العين والبصر.

اليوم تفخر إيران بالدرجة الأولى بعلمائها، واستقلال قرارها السياسي، في ما دولنا محتلة وعلماؤنا خدم لأمم الأرض، ولا يجدون لهم موطئ قدم في أوطانهم.

على موقع المنظمة الدولية المعروفة، بمقدورك أن تجد العبارة التالية «اليونسكو هي فلسفة، ومن هنا بمقدورك أن تقرأ تاريخها»، وقياساً عليه فإن كل كيان هو فلسفة. ومن دون الرؤيا المتكاملة واسعة الأفق التي ترى الوطن وما يحيط به، وهو ما يسمى «الاستراتيجية» الواضحة والحكيمة، لا وجود لشعوب ولا قيامة لها. وقد قمعت السلطات العربية وصول الإسلاميين إلى السلطة طوال عقود، لكنها لم تجد البديل الشافي أو فلسفتها المقنعة. وبدل أن تنصرف الحكومات العروبية إلى بناء نموذجها الذي يثبت سوء الاختيار الإيراني، فعلت العكس تماماً، واستخدمت العنف لكبح الجيران، وتعطيل برنامجهم، أو نحر فلسفتهم، وها هي الأيام تثبت، وهو ما يراه العيان على الأقل، ان النموذج الإسلامي الإيراني، أدخل اصحابه النادي النووي، فيما الخيار العربي، القتالي دائماً، القمعي ابدا، من دون أي فلسفة أو خطط رؤيوية، أعادنا الى العصر الحجري.

كثيرون هللوا لدخول أميركا الى العراق، وقبلها زغردوا لهجوم صدام على ايران، وثمة من يفرح ويصفق لرؤية الحبل يضيق حول عنق «حماس»، التي اختارها الفلسطينيون بإرادة حرة. ونعرف أيضاً، من يتمنون أن تقتل الحكومات العربية كل إسلامي متشدد، ولو كان أخا او ابن عم، ونعرف من الإسلاميين من يحللون دم من لا يناسب مقاييسهم، والدائرة تضيق حتى صار واحدنا يقتل نفسه، بألف طريقة، ان لم يجد من يقتله، وبتنا أمواتاً مع وقف التنفيذ.

قبل يومين، قرأنا في الـ«وشنطن بوست» أن أميركا كانت تخطط لحرب على ايران، حتى قبل الدخول إلى العراق، وأن النية مبيتة للهجوم على المواقع الحساسة. في ما تقول الـ«صنداي تايمز»، إن ايران أعدت حوالي 40 الف انتحاري، تحسباً لأي هجوم محتمل. وهكذا فإن الأخبار تؤكد أن جنون الامبراطورية العظمى، بلغ مداه، وليس في صالح فريق التحميس والتصفيق العربي، الذي تعود التطبيل لكل الحروب، مساندة أميركا في مغامرتها المرعبة. هذه المغامرة التي «ستكون اكثر كارثية مما نشهده، الآن في العراق»، كما قال لـ«نيويورك تايمز» ريتشارد كلارك، المسؤول السابق عن محاربة الإرهاب في البيت الأبيض.

وكي لا نبقى ندور في الدائرة الجهنمية نفسها، على الحكام العرب أن يتوقفوا عن إدانة العنف، حين يكون إرهابياً وتشجيعه يوم تنفذه دول كبرى مستأسدة. فالتجربة أثبتت أن كل الممارسات الدموية خطيرة، وأن توصية النبي الكريم بسابع جارٍ، ولو كان متمرداً وعنيداً، ومخالفاً لما نتمنى ونريد، لهي مما يجدر العمل به. فالموت في فلسطين كما في العراق أو ايران ـ لو وقعت الواقعة ـ هو محض خراب. وإن كان لأميركا مصلحة بترولية أو إسرائيلية للهجوم على ايران، فلن يحصد العرب سوى سوء العاقبة، والمزيد من اليأس والإحباط.

«الرئيس الصيني قلق من النمو السريع لبلاده»، هذا الخبر الصغير، يبدو للقارئ العربي أقرب إلى النكتة، والصين تعد لافتتاح 300 متحف هو ضرب من الخيال، أما انها تعمل على بناء 400 مدينة جديدة خلال الخمس عشرة سنة القادمة، فهذا لا يصدقه عقل عربي. علماً بأن الصين تعرضت لمحاولات تفتيت وشرذمة، كالتي تعرض لها العرب، وصمدت وتآكلت أجزاء منها، وها هي تحاول بالكد والعرق وفلسفة العمل الجاد ان تعيد الجميع الى الحظيرة. أما نحن فلأننا لا نفهم بعد خطورة أن ينام الجار جائعاً، فإن مختلاً عقلياً، كمن رأيناه في الاسكندرية بمقدوره أن يشعل نار فتنة تدوم أياما، ولا نعلم ان كان ثمة من يملك قوة إطفائها.

[email protected]