أطروحة الاستقواء بالأجنبي

TT

اشتد الجدل حول مفهوم السيادة الوطنية ومسألة ضبط العمل السياسي الوطني داخل إطار حدود الدولة الوطنية القطرية، ولا يزال، منذ أن استنبط وزير الصحة الفرنسي برنار كوشنار في عهد ميتران مفهوم حق التدخل الإنساني، بحثا عن جعله قانونا دوليا منطلقا من تلك المآسي والمجاعات التي شهدتها أفريقيا جراء فساد بعض أنظمة الحكم.

والى ذلك، أصبحنا أمام موقفين؛ موقف يرفض كل أشكال التدخل، وأغلبهم من الموالين لأنظمة الحكم في بلدانهم (والباقي لأسباب مبدئية)، وموقف ثان لا يمانع من التدخل الأجنبي ويرى فيه ضرورة ونتيجة حتمية لفشل النخب العربية الحاكمة على إشباع توقعات شعوبها في مجالات التنمية والديمقراطية وانصرافها نحو الفساد السياسي والاقتصادي، ومواصلة طريقة حكم الماشية وعدم أهليتها للتحول آليا وطبيعيا إلى منظومة المواطنة.

وفي حالة الدول العربية، فإنّ غزو العراق وطرح مسألة الشرق الأوسط الكبير وتبني الولايات المتحدة لمشروع دمقرطة منطقتنا، كل ذلك أعاد النقاش الساخن حول هذه المفاهيم التي أطلت في الأخير على مصطلح جديد هو الاستقواء الأجنبي.

الجدير بالذكر في البداية هو أن هذا المصطلح يستبطن ويعلن تخوينا ويسعى إلى عزل التيار الذي يؤمن بضرورة «الاستقواء بالأجنبي»، للضغط على الأنظمة الحاكمة وإجبارها على قطع خطوات في مجال الحريات.

وتلمّح النخب السياسية المهددة بظاهرة «الاستقواء بالأجنبي»، وبشكل غير مباشر إلى الجناية الكبرى التي قام بها العراقيون المعارضون عندما راهنوا على التدخل الأجنبي، حيث قادوا العراق إلى فوضى ومآس يوميّة.

وطبعا، لا تفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى أن فشل الولايات المتحدة والقوات المتحالفة في العراق، انعكس سلبا على خطاب المؤمنين بضرورة «الاستقواء بالأجنبي» لإرساء الديمقراطية في بلدانهم. بمعنى أنه خطاب لا يستند إلى حجة ومثال ناجح يقوّي الالتفاف حوله، في حين أنّ الأنظمة الحاكمة استثمرت فشل الولايات المتحدة في العراق لإظهار فضائل تأمين المرافق من ماء وكهرباء وأمن في الشوارع، وأنها أفضل من العدم!

لذلك يمكن القول إن تخبط المشروع الأمريكي في العراق والمآسي التي حملها، جعل الأنظمة العربية وجزءا من الرأي العام العربي والأحزاب خصوصا القومية منها والأخرى الحاكمة، تعلن رفضها التام لهذه الظاهرة وتذهب بها إلى حد التكفير. وهو رد فعل دفاعي يستند إلى طاقة هجومية عنيفة تلعب على السياسي والاجتماعي، وتقوم على المبالغة في تضخيم ما يسمّى «الاستقواء بالأجنبي».

أمّا القوى السياسية والفكرية الأخرى، خصوصا الليبرالية منها، فرأت في خطاب الأنظمة العربية حول «الاستقواء بالأجنبي» تحايلا على استحقاقات وطنية عاجلة، لم ولن تقيمها الدول الوطنية إذا انفردت بقرارها السيادي.

أي أن هناك أزمة ثقة بين الأنظمة والقوى الباحثة عن الديمقراطية.

وإلى جانب الموقفين السائدين، برز موقف ثالث يتبنّى مقولة توفيقية؛ شعارها «لا للاستبداد ولا للاستعمار»، وهي مقولة تبنتها مجموعة من المثقفين والمبدعين العرب البارزين، وذلك قبل الهجوم على العراق.

ولعلّ المتابع للفضائيات العربية والصحف يلاحظ دون جهد طغيان خطاب «الاستقواء بالأجنبي» في عدة دول عربية؛ منها لبنان ومصر وسوريا، علما بأنه خطاب يندرج ضمن خطاب السب والشتم والتخوين، لذلك فهو خطاب يتغذى من معجم التلاسن ولم يرتق إلى ما هو فكري وجوهري.

إنّ إقبال النخب الحاكمة العربية على ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الإعلام والحريات العامة وحرية أحزاب المعارضة ومختلف الأطياف السياسية، بدون حاجة إلى ضغوط، أي أنها تتعاطى مع الاستحقاقات الوطنية العاجلة من باب القناعات، يمثل الحل الأمثل والأقوى والوحيد لتعزيز بناء معارضة وطنية تستمد قوتها من الداخل قبل الخارج. أما إذا واصلنا الحرث في الرمل والرهان على التخوين، فإنّ هذا الخطاب قصير العمر والحبل ولو كان خليطا من حقائق وكذب.

* كاتبة تونسية

[email protected]