.. ولماذا الفشل؟

TT

عندما كتب الدكتور فاروق الباز في «الشرق الأوسط» امس، عن جيل الفشل، كان حديثه عن هذا الفشل تواضعا منه، فهو عالم بارز ونموذج نجاح مشرف على مستوى عالمي، وهو لا يزال يمثل منارة تنوير وثقافة من خلال آرائه التي يطرحها سواء في كتابات ام مؤتمرات وندوات يشارك فيها في المنطقة، وعندما يمارس نقد الذات ليتحدث عن فشل جيله يعبر عن همٍّ عام لا علاقة له بنجاحه الشخصي.

هناك نماذج كثيرة لعلماء وأكاديميين ورجال اعمال ومفكرين ومثقفين عرب حققوا انجازات ونجاحات مبهرة في الخارج، وفي الداخل، خلال الـ 50 عاما الماضية، واستطاعوا تحريك المياه الراكدة، لكن عندما ننظر الى الواقع الذي تعيشه المجتمعات اليوم، وموقع الدول العربية في خريطة الانجازات العالمية، نجد ان هناك فشلا عاما.

المشهد الحالي في المنطقة لا يسر، ولا يبشر بخير، فثقافة التطرف وعدم التسامح والطائفية تكسب ارضا جديدة كل يوم، ومحاولة الهروب في زوارق عبر البحر الى اوروبا هربا من البطالة وانعدام الأمل اصبحت ظاهرة تعكس حالة يأس بين قطاعات من الاجيال الجديدة، وصار العنف والتفجير والقتل اسلوب حياة في اكثر من بقعة ساخنة بالمنطقة.

ومظاهر الفشل كثيرة وأخطرها أفكار التخلف والتطرف التي اصبح وجودها بارزا وتحاول ان تشد المنطقة كلها الى الوراء، وعندما يدخل التطرف والطائفية والعنف افكار الاجيال الجديدة تكون هناك مسؤولية على الاجيال الاكبر التي فشلت في ان تقدم لأبنائها ما هو افضل من ذلك، او ان تضعهم في موقع مناسب يستطيعون ان يدخلوا به سباق الامم نحو التقدم.

لماذا فشلنا؟.. هذا سؤال يحتاج الى اجابات صريحة، وهي بدورها تحتاج الى الاعتراف اولاً بالفشل، كما فعل الدكتور الباز، ثم تحليل الظاهرة بجدية لايجاد حلول جدية تنتشل المنطقة من المنحدر الذي تذهب اليه بقدميها.

وهو يحتاج ايضا الى التوقف عن إلقاء اللوم على الاخرين او محاولة تصدير المشاكل والحديث عن المؤامرات الخارجية، فهذه المؤامرات ـ ان جاز التعبير ـ هي جزء من لعبة الامم والمنافسة الدولية، وهناك قواعد للعبة، استطاعت دول كثيرة، كانت نامية، ان تحقق لنفسها موقعا مناسبا على الخريطة الدولية في اطارها.

واذا اردنا ان نعرف سبب الفشل فان ابرز مقارنة يمكن ان تظهر اسبابه هي التي تجرى بين المنطقة العربية ودول جنوب شرقي آسيا. فدول المنطقتين كانتا في موقع واحد في الخمسينات والستينات من حيث مستوى دخل الفرد والنمو الاقتصادي والمستوى التكنولوجي والعلمي، وخلال العقود الاربعة الماضية قفزت دول جنوب شرقي آسيا قفزات هائلة اقتصاديا وتكنولوجيا لتصبح دولا صناعية حقيقية وينظر لها باحترام عالمي. اما المنطقة العربية فكانت في مسار عكسي خلال هذه العقود بدون ان تنفعها الثروة النفطية، ولا يمكن هنا إنكار ان هناك نموا تحقق، لكنه ليس بالمعدل الذي يحقق قفزات حضارية حقيقية.

وقد يكون الفرق بين جنوب شرقي آسيا هو الصراع العربي الاسرائيلي وما شهده من حروب باعتباره احد العوامل التي تشد المنطقة الى الوراء وتغذية ثقافة التطرف، لكن حروبا كثيرة اكثر تدميرا في المنطقة لم تكن لها علاقة بهذا الصراع الذي استغل في احيان كثيرة للهروب من مشاكل داخلية، ففي جنوب شرقي آسيا هناك صراعات اكثر خطورة واشد بأسا، هناك الازمة بين الكوريتين، وهناك مشاعر غاضبة تحت السطح من ايام الحرب العالمية الثانية عندما غزت اليابان هذه الدول، وهناك سباق الصين نحو ان تصبح القوة الاولى في العالم... لكن يبدو ان الناس اكثر عقلانية، او ان الترتيبات الاقليمية اكثر رشدا، لانه لم يسمح بأن تتحول الانفعالات او المنافسات الى حروب كما يحدث في الشرق الاوسط. حتى الصين القوة الكبرى سلكت طريق التفاوض والصبر لاكثر من مائة عام لاستراداد هونج كونج بعد أن اصبحت من اهم المراكز المالية في العالم ولم تغضب احدا.

وهناك دراسة مقارنة اجراها البنك الدولي قبل سنوات لمنطقتي الشرق الاوسط وافريقيا رصدت فارقا مهما في مسيرة المنطقتين، هما الاستثمار المكثف الذي تم هناك في التعليم وعدم المساس بحقوق الملكية الفردية، وبالتأكيد ان هناك عوامل اخرى كثيرة تستحق الدراسة والتعلم.