المأزق الفلسطيني : حكومة الظل.. وهل من اعتراض ؟

TT

منذ فوز حماس، وحتى اليوم، وحركة فتح تتصرف بحذر شديد، واحيانا بقدر من الحيرة في كيفية التعامل مع الوضع الجديد. ولذلك سبب نفسي يسبق كل الاسباب الاخرى، ذلك ان فتح، التي تشعر بألم فقد سلطة ناجزة كانت بين يديها بالمطلق، يراودها شعور آخر وهو عدم الظهور بمظهر المعوق لسلطة حماس او المنتظر بفارغ الصبر فشلها في ادارة شؤون البلاد والعباد.. ولقد انعكس هذا الشعور في لغة فتح عبر العديد من ناطقيها المعروفين، فتارة نسمع تصعيدا قويا مع استخدام الفاظ الحد الاقصى، كالانقلاب والسعي لمحو الماضي، والتحول الى طريق مغاير تماما.. وتارة اخرى نسمع كلاما هادئا، فيه استعداد للتعاون، وعدم وضع العصي في الدواليب. وحماس من جانبها تبدو احيانا ايجابية في استقبال مواقف فتح، واحيانا اخرى مشككة في نواياها وسلوكها، ما خلق جوا غامضا حول ما سيكون عليه المستقبل. وفي غمرة الجدل الحائر وغير المستقر تظهر مصطلحات غريبة بعض الشيء.. مثل الثقة بالرئيس وتجاوبه الشخصي مع حماس وانعدام الثقة بمن حوله واتهامهم بتحريضه وتسميم اجوائه. ولقد تطور الامر اخيرا الى انتشار مقولة «حكومة الظل» والمقصود هنا حكومة غير رسمية تؤدي دورا حكوميا تحت يافطات متعددة، لعل ابرزها واكثرها تداولا يافطة الرئاسة. والمنظمة. وفتح. واذا كنت اتحفظ على التسمية، على الاقل بسبب عدم اعتمادها ولو موضوعيا من قبل الرئيس، الا انني ساتطرق الى موضوع مشابه الى حد كبير. وهو: كيفية التعامل مع ظاهرة حكومة حماس المرفوضة من قبل جهات اقليمية ودولية ذات نفوذ واسع في حياتنا السياسية، وظاهرة رئاسة فتح والمنظمة المعترف بها على نطاق واسع، والموعودة بدعم اساس عبر قنوات محددة ابرز خصائصها تفادي الحكومة وعدم التعامل معها. ان الوضع الفلسطيني ذا السمات الاستثنائية، يواجه حقا معضلة كهذه، وهي بالمناسبة ليست من صنع السلطة او المنظمة او فتح، بل هي من صنع الواقع الذي ولدت من احشائه عملية السلام، وبنيت على اساسه السلطة الوطنية، التي تعتمد بنسبة تفوق الثمانين بالمائة على الدعم الخارجي. والتسهيلات المتفق عليها مع اسرائيل. واذا كانت عملية السلام قد بدأت وفق شروط اولها الاعتراف المتبادل بين اسرائيل والمنظمة، فان فصولها ارتبطت على نحو وثيق ـ بما في ذلك الدعم والتمويل ـ بمستوى العلاقة بين الطرفين.. فان كانت «معقولة وسائرة باتجاه التفاوض والحلول» اغدق العالم عليها دعمه ورعايته، «وان سارت باتجاه آخر» توقف الدعم ونهضت كل المشاكل من مكامنها واولها جمود الحركة السياسية، وليس آخرها ازمة الرواتب التي كانت ولا تزال مثل حكاية ابريق الزيت. في حالة، كهذه، لم يكن متوقعا ان يفضي وصول حماس الى السلطة ولو من خلال عملية ديمقراطية الى غير التعقيد وزيادة ذرائع تطوير الأزمة وتطوير وسائل الضغط. وهذا ما نرى مقدماته الآن.. وما يدفع المواطن الفلسطيني اثمانا مضاعفة له.. سياسيا واقتصاديا وحتى نفسيا. كيف يتصرف عباس والحالة هذه؟ ليس من المصلحة ان يعتنق عباس شعار: من لا يتعاون مع حكومة حماس لن نتعاون معه، فذلك يعني وضع الفلسطينيين جميعا في زاوية ضيقة، واخضاعهم لمقاطعة دولية صارمة، بحكم صراحة الموقف الاميركي من حماس وقوة تأثيره عالميا. كما انه ليس من المصلحة وليس من اخلاقيات ابو مازن ان يحاول الاستفادة من هذا الحصار، الذي يطاله ويطال منظمته وشعبه ورئاسته على نحو مباشر وغير مباشر، لإسقاط حماس، واستعادة السلطةإ كما لو ان شيئا لم يكن. لقد اختار عباس خير الأمور، وخير الأمور أوسطها، فقد أبلغ العالم كله اعترافه بشرعية حكومة حماس رغم الخلافات السياسية الجوهرية بينه وبينها وسهل عملية تسلمها للسلطة.. رغم التهديدات الواضحة بتنفيذ سلة عقوبات غير مسبوقة بما فيها عقوبات تطال موقعه الرئاسي ومنظمة التحرير وفتح. الا انه في ذات الوقت حاول بسط رداء شرعيته على العديد من المؤسسات الحكومية الحيوية، مستفيدا من استعداد كثيرين للتعاون معه، ومتفاديا المزيد من الاهوال التي سيدفع ثمنها المواطن قبل اي سياسي او قائد. وحين بادر باعادة تنظيم الرئاسة، بتحويلها من مكتب رئيس الى مؤسسة فعلية، قادرة على اداء الدور ومتابعة القضايا، فلم يكن في وارده خلق سلطة موازية او تأسيس حكومة ظل، كما يقال.. وانما لمتابعة اعمال منوطة به كرئيس.. ومتصلة على نحو وثيق بمصالح المواطنين، وقضاياهم، ومتصلة كذلك بالشأن السياسي الذي هو من صلب اختصاصه وشرعيته كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية. ان الرئيس عباس، وهذا ما يعرفه الجميع عنه، ليس من النوع المتعطش للسلطة، والراغب في مضاعفة اعبائه من خلالها. والكثير من القرارات السلطوية، التي اضطر الى اتخاذها، كانت بفعل ضغط الحاجة، وليس بفعل الرغبة في توسيع الصلاحيات وتهميش دور الحكومة، واذا كانت حماس بعيدة الى حد ما عن تفهم دوافع الرئيس وأهدافه، فيتعين عليها ان تقرأ بدقة الواقع المحيط بها والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، عليها ان تدعم كل مبادرة رئاسية توفر مزايا للشعب الفلسطيني وتمنع عنه اذى الحصار والعقوبات.. فما زال هناك متسع لفعل شيء سياسي، واقتصادي، وإداري.. اكثر من التقشف الاستعراضي، كأكل الفلافل امام عدسات الكاميرا، والامتناع عن قبض الراتب قبل الآخرين، واستخدام سيارات الأجرة على الحواجز، بينما السيارات الفاخرة تستخدم بقوة القانون في اماكن اخرى واللاحقون كالسابقون في هذا الأمر!!! ان الشعب الفلسطيني يحترم المتعاطفين معه من ابنائه واصدقائه ولكنه ينتظر منهم اكثر من هذه الاجراءات الشكلية، وينتظر منهم اكثر من الوعود الوردية، القائمة على فرضيات غير حقيقية. فمنذ تولي حماس السلطة، وقبل ذلك، اي منذ نجاحها في الانتخابات البلدية والتشريعية، وهي تواصل تقديم الوعود للمواطن، وتواصل الاعلان عن ان الأموال قادمة من الاصدقاء والأشقاء، متوفرة بفعل التقشف ومحاربة الفساد، وهذه امور مرحب بها، بل ولها صدى شعبي شديد الايجابية، ولكن اين هذه الاموال، لماذا تأخرت، ثم ان الاموال تحسب بالارقام وليس بأي شيء آخر.. وحين تعلن الحكومة ان خزينة وزارة المالية خاوية، فهي كذلك منذ سنوات، وهي كذلك منذ ان وعدت حماس جمهور الناخبين بملئها. ان ادانة السلطة السابقة امر شبعنا منه. وتحميلها مسؤولية التردي السياسي والاقتصادي امر نوافق عليه.. ولكن ما نريده حقا ليس تذكير المواطن بهذه البديهية التي يعرفها، وانما تقديم معلومات دقيقة حول الاجراءات التي تتخذ لانهاء هذه المعضلة او للتخفيف من اذاها!! ان محمود عباس يحاول ملء الفراغات الكبيرة التي نشأت منذ زمن وليس فقط منذ بدء عهد حماس في الحكومة، ولكن على حماس ـ وهذه نصيحة لا اكثر ولا اقل ـ ان تشجع الرئيس في كل مسعى يؤدي الى تخفيف المعاناة عن الشعب والا تقف له بالمرصاد، كما لو ان تعيين موظف، في موقع ما، هو التجاوز الخطر.. اما ازمة آخر الشهر، التي لم تحل الا من خلال جهوده، فهي عابرة يمكن التفاهم على حلها.! اننا في وضع استثنائي، ولا يعيب رئيس السلطة ان يتخذ قرارات استثنائية ما دامت تعطي نتائج ملموسة في مصلحة الجميع.. ولا ينتقص من مسؤوليات الحكومة ان تجد من يقدم حلولا لبعض المعضلات ولو الى حين.

* وزير الإعلام

الفلسطيني السابق