خيارات حماس إزاء الحصار المطبق

TT

في الوقت الذي كانت إسرائيل تواصل فيه قصف غزة بالصواريخ، كانت قيادة السلطة الفلسطينية مشغولة بقصف آخر، استهدف تقويض حكومة حماس. إسرائيل مارست استقواء أرادت به تأديب الفلسطينيين، والتأكيد على انها صاحبة اليد العليا في المنطقة. أما قيادة السلطة فقد مارست استقواء من نوع آخر، أرادت به إفشال حكومة حماس، والتأكيد على أنها صاحبة الكلمة الأخيرة في غزة والقطاع (بعد الإسرائيليين بطبيعة الحال)، وإذ استأسدت قيادة على الحكومة واستعرضت عضلاتها في الساحة الفلسطينية فإنها بدت دون «النعامة» بكثير، إذا استخدمنا لغة بيت الشعر الشهير، في مواجهة الإسرائيليين، وشتان بين المشروعين، فما فعلته إسرائيل كان تعبيرا عن وحشية مشروع شرير لدولة احتلال، أما ما فعلته قيادة السلطة فكان أقرب إلى الكيد الذي يعبر عن مرارات مجموعة من الذين انتفعوا بالسلطة واستأثروا بالثروة، وأصروا على استمرار احتكار الاثنتين، رغم أن الأغلبية لفظتهم حين أتيحت الفرصة للاحتكام إلى الشارع في الانتخابات الأخيرة.

أخبار القصف الإسرائيلي ملأت الصحف وتحدث وسار بها الركبان، لكن أخبار القصف الفتحاوي ظلت أخبارا متناثرة في زوايا الصحف، وبعضها لم يذكر في الصحف أصلا. وأحدث «عملية» من ذلك القبيل تمثلت في القرار المفاجئ الذي أصدره أبو مازن بتعيين أحد رجال فتح الموالين له على رأس جهاز الأمن الداخلي، مع تجاهل وزير الداخلية الذي يُفترض أنه المسؤول الأول على الأمن في البلاد وسبقت هذه «الغارة» قذائف أخرى تساقطت على رأس الحكومة تِباعا، منها مثلا نقل الإشراف على التلفزيون إلى الرئاسة، وكذلك إدارة الحدود والمعابر، منها أيضا تلك المعلومات التي تواترت حول تعيين وزير المالية في حكومة فتح السابقة لكي يتسلم المسؤولية المالية في الرئاسة، وهي إشارات تدل على أن ثمة توجها حثيثا لسحب البساط من تحت أقدام حكومة حماس، وإقامة حكومة فتحاوية موازية في الرئاسة تحت مسميات مختلفة، وهو الخبر الذي نفته مصادر السلطة، في حين أشارت كل الدلائل إلى صحته.

إنك إذا دققت في هذه التفاصيل، واستعدت قرارات المجلس التشريعي السابق في آخر جلسة له، ستلحظ أن الحرب الفتحاوية معلنة منذ اللحظات الأولى لإعلان فوز حماس في الانتخابات التشريعية، وأن هناك إصرارا لا يحيد على تقويض حكومة حماس وشل حركتها، وقد بدأت الحملة بإصدار المجلس السابق عدة قرارات استهدفت حصار الحكومة والمجلس معا، والحيلولة دون تمكينهما من تغيير هيكل الجهاز الإداري الفتحاوي، وهو ما توازى مع حملة لترفيع عناصر فتح في الوزارات لكي تستمر سيطرتهم عليها، في هذا الإطار صدرت قرارات بتعيين 19 وكيل وزارة دفعة واحدة، لكي يصبحوا أداة فتح في تسيير الجهاز الإداري، وها نحن نلحظ تحركا باتجاه نقل مسؤوليات الأمن والمال والإعلام ـ التي هي أهم المرافق ـ إلى الرئاسة، علما بأن هذه الصلاحيات التي يستميت أبو مازن ورجاله الآن لكي يستأثروا بها وهم في رئاسة السلطة، هي ذاتها التي استمات أبو مازن ومن لف لفه في انتزاعها من رئاسة السلطة في حياة أبو عمار لنقلها إلى الحكومة، حين كان الأول رئيسا لها.

في الوقت الذي شغلت فيه قيادات فتح بتدابير وحيل الحصار والإفشال، تضاعفت ضغوط الحكومتين الإسرائيلية والأميركية ودول الاتحاد الأوروبي لمقاطعة حكومة حماس، مستخدمين في ذلك أسلوب المقاطعة الاقتصادية فضلا عن الدبلوماسية، وهو ما أدى إلى عجز الحكومة الفلسطينية عن دفع رواتب الموظفين عن شهر مارس (آذار)، الأمر الذي دفع الوزراء في الحكومة الجديدة إلى الامتناع بدورهم عن تسلم رواتبهم، حتى تنجلي الغمة، وفي حين قررت الحكومة الأميركية عدم إجراء أي اتصال مع ممثلي الحكومة المنتخبة في غزة، فإن الحكومة الإسرائيلية ذهبت في الصفاقة والاستعلاء إلى أبعد حد، حيث لم تقرر فقط مقاطعة حكومة حماس، بل قررت مقاطعة أي دبلوماسي أجنبي يجري اتصالا مع ممثلي تلك الحكومة، أي أنها قررت أن تعاقب أي دبلوماسي في الكرة الأرضية يخرج عن طاعتها، ويجترئ على خرق الحظر الذي فرضته على الاتصال بالفلسطينيين في الحكومة الجديدة.

إزاء هذا المشهد من الطبيعي أن نتساءل: أين العالم العربي والإسلامي؟

حين نحاول أن نقلب احتمالات الإجابة عن السؤال، سنلاحظ مثلا أن في ذلك العالم دولا «صديقة» للولايات المتحدة بوجه أخص، وأخرى على علاقة تصالح مع إسرائيل، كما سنلاحظ أن للعرب والمسلمين مصالح وثروات لدى الدول الغربية يُعمل لها ألف حساب، الأمر الذي يعني أن العالم العربي الذي اعتبره قاطرة العالم الإسلامي في بعض المجالات، لديه أوراق تمكنه من مخاطبة الدول الغربية ـ بل إسرائيل ـ في موقفها الداعي إلى خنق الفلسطينيين وتجويعهم، فضلا عن إذلالهم بطبيعة الحال، ستلاحظ أيضا أن الدول العربية لم تستخدم ما تملكه من جسور صداقة أو أوراق ضغط، لإثناء الدول الغربية وإسرائيل عن عزمها، والتعامل بأسلوب أكثر انصافا وإنسانية مع النتائج التي أفرزتها إرادة الشعب الفلسطيني. لقد استمرت العلاقات عادية للغاية مع الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين، وكأن الذي يفعلونه مع الفلسطينيين لا يعني العواصم العربية في شيء، ولا شأن له بتهديد مصيرها أو أمنها القومي، وهو موقف مستغرب حقا، فلم نسمع عن احتجاج عربي على ما حصل، ولا عن تحرك دبلوماسي أو اتصالات لحلحلة المسألة مع أي طرف أوروبي أو أميركي كما لم نسمع عن سحب للسفراء العرب على محدوديتهم في إسرائيل.

لقد علقت الولايات المتحدة توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع مصر، حتى تستجيب القاهرة لمطلبها في إطلاق سراح أحد زعماء أحزاب المعارضة بعد أن كانت تمت محاكمته وإدانته وحكم القضاء بسجنه. أما في بلادنا فها هي الدول الغربية تتضامن وتتكاتف مع إسرائيل لتجويع الفلسطينيين وإذلالهم، ولا شيء يتحرك في عالمنا العربي، باتجاه التضامن مع أكثر من مليوني فلسطيني، لا تكتفي إسرائيل بقيادة حملة تجويعهم، ولكنها تعمد إلى قصف أحيائهم ومخيماتهم واغتيال الناشطين فيهم. صحيح أن تصريحات رسمية صدرت في بعض العواصم العربية «باستنكار» ما جرى، لكنه كان استنكارا خجولا وعاجزا، كان إبراء الذمة فيه أظهر من الانتقاد أو الاستهجان.

على صعيد آخر، كان المظنون أن تبادر الدول العربية إلى تسديد التزاماتها إزاء السلطة الفلسطينية التي قررتها قمة بيروت (55 مليون دولار شهرياً تتجدد كل ستة أشهر)، وأن تزيد عليها لمواجهة ظروف الحصار، ولكن ذلك لم يحدث للأسف. لذلك تراكمت استحقاقات للسلطة على الدول العربية في الفترة من قمة بيروت عام 2002 إلى قمة الجزائر عام 2005، بلغت مليارا و980 مليون دولار ـ لم يسدد منها سوى 655 مليون دولار فقط ـ وفي الفترة من 1/4 إلى 30/9/2005، كان مفترضاً أن تدفع الدول العربية للفلسطينيين 307 ملايين دولار، لكن ما تم دفعه لم يتجاوز 136 مليون دولار.

وحسب المعلومات المتاحة، فإن دولتين عربيتين فقط هما السعودية والجزائر، قدمتا ما عليهما من استحقاقات (الجزائر قدمت 34 مليون دولار قبل أسبوعين)، أما بقية الدول العربية فكلها مدينة لصندوق دعم السلطة الفلسطينية.

اللافت للنظر في هذا الصدد أن قمة الخرطوم الأخيرة قررت استمرار المعونة الشهرية (55 مليون دولار لتغطية رواتب الموظفين)، وتم الاتفاق على زيادة الدعم في حالة فرض الحصار على السلطة، وهو الحاصل الآن، ويُفترض أن تبحث الزيادة المطلوبة في اجتماع مجلس الجامعة في شهر سبتمبر (أيلول) القادم.

كان المظنون أيضا أن يفتح باب التبرعات المالية واسعا في مختلف العواصم العربية والإسلامية لتمكين الشعوب المسلمة من إغاثة اخوانهم في فلسطين، ولكن حملة التبرعات ما زالت دون المستوى المرجو، سواء بسبب حذر الحكومات التي تتحسب من الضغوط الأميركية، أو نتيجة لضعف مؤسسات المجتمع المدني في مختلف الأقطار العربية والإسلامية.

الخلاصة أن حكومة حماس تواجه حربا من جانب السلطة في غزة والفتحاويين الملتفين حولها، وحرباً ثانية من جانب إسرائيل، وثالثة من جانب الأميركيين والأوروبيين، كما انها استقبلت بفتور من بعض الدول العربية وبتحفظ أو تقاعس من جانب دول أخرى، مع استثناءات محدودة في المحيطين العربي والإسلامي.

ولا أعرف ما إذا كانت هذه التداعيات قد خطرت من البداية على بال قيادات حماس أم لا، ولكن الذي أعرفه أنها لكي تستمر يجب أن تحتفظ بمراهنتها على أمور ثلاثة؛ أولها ثقة الشعب الفلسطيني الذي صوتت أغلبيته لصالحها، وثانيا: التحرك الجاد لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمثل الوعاء الأوسع للوطنية الفلسطينية، وهي المهمة التي أيدَتْهَا ووقعتْ عليها قيادة فتح قبل عام في القاهرة، ولكنها تلكأت لكي تحتفظ بهيمنتها على مؤسساتها، التي استخدمت بعضها لاحقا في ضرب حكومة حماس وحصارها. أما الأمر الثالث فهو الدعم الشعبي العربي الإسلامي، الذي يحتاج تنشيطه إلى جهد من النخبة المعنية بالأمر على الجانبين.

ورغم أهمية هذه العوامل إلا أنني لا أستطيع أن اقطع باستمرار الضغوط الأميركية الرامية إلى محاصرة حماس وتقويض حكومتها، لأن المأزق الأميركي في العراق والضربات والفضائح المتتالية التي باتت تهز البيت الأبيض الآن، قد تشكل عنصرا يضعف من القبضة الأميركية، ومن ثم يخفف الضغط على حماس، أما إذا تطور الموقف الأميركي إلى مواجهة عسكرية مع إيران، فإن المشهد قد ينقلب رأسا على عقب، وحينذاك يكون لنا حديث آخر.