من البحرين الأبيض والأحمر.. إلى الخليج

TT

في أوج مجده خلال الستينيات، وقف الرئيس جمال عبد الناصر في واحدة من خطبه لكي يقول للغرب انه إذا لم تكن تعجبه السياسات الناصرية فإن بوسعه الشرب من البحر الأبيض، وإذا لم يكن ماؤه كافيا فإنه في البحر الأحمر، وربما من بعده المحيط الهندي، يوجد ما يكفي ويزيد. وأيامها، صفقت بحماس الأمة العربية من المحيط الهادر حتى الخليج الثائر، كما كان يقال في تلك الأيام «المجيدة». وبالطبع فإن الغرب لم يشرب من البحر، وما حدث هو أن المصريين، والعرب من بعدهم، شربوا من كأس المذلة والهزيمة والدوران حول قاعات الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحثا عن قرار يعيد الأرض «السليبة» والشرف المهان. ورغم القصة التي يعرفها الجميع عما جرى بعد خطاب الشرب من البحار، فإن الحنين لتلك اللحظة «العنترية» لم يتوقف أبدا، وكانت التصريحات التي يطلقها صدام حسين، أو التي يوزعها الراديكاليون العرب على اختلاف أشكالهم الإسلامية والقومية، تلعب في العقول، وتهز الأفئدة، وتعبث بالوجدان، وتدفع بالتساؤل عن العودة للأيام الطيبة الأولى التى يمكن ساعتها إهانة الغرب طوال ساعات النهار.

ورغم أن الأيام لم تعد أبدا إلى سيرتها الطيبة الأولى، سواء لأن هذه الأيام لم تكن موجودة من الأصل، أو لأن حظوظا وأقدارا منعتها من الوجود أو العودة، فإن حالة الحنين إلى التحدي اللغوي ظلت قائمة طوال الوقت. وفي الأسابيع والشهور الأخيرة، كانت تصريحات الرئيس الإيراني السيد محمود أحمدي نجاد هي التي لبت النداء وحققت المطالب في خطاب تتهاوى فيه الدولة الأمريكية، وتنهار فيه الدولة الصهيونية، وينقلب فيه العالم رأسا على عقب حتى يرضى تماما أصحاب العقول المقلوبة!.

ولمن يتذكر الأيام الطيبة الأولى، سوف يرد إلى ذهنه تلك اللحظة الموحية للرئيس «الخالد»، وهو ينظر إلى السماء شاخصا إلى ذيول صواريخ «القاهر» و«الظافر» التي أدخلت ساعتها الأمة العربية إلى تكنولوجيا الفضاء وأبواب الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة في لحظة وخبطة واحدة حاسمة وبتارة. وتكرر المشهد بحذافيره بعد ذلك في استعراضات عسكرية تجرى في أعياد الثورة ومناسبات أخرى خاصة بزعماء كانت لهم أسماء حسنى امتدت فيها صواريخ «الحسين» صاحب المرحلة الواحدة، و«العابد» المتعدد المراحل، بينما طوابير العسكر ـ والفدائيين ـ تدق بأقدامها في لحظات منضبطة. ولم يختلف الأمر كثيرا عندما وقف أحمدي نجاد ليعلن عن قيام إيران بتخصيب اليورانيوم، وقبله وبعده ظهرت الصواريخ التي لا يوجد كمثلها صواريخ، وخرجت الناس هاتفة زاعقة مكبرة ساعة سير الطوابير العسكرية وهي تشهر مبكرا لحظة الانتصار الموعودة.

ومهما مرت العقود والسنوات، وتغير العالم، فإن اللحظة لم تفقد أبدا بريقها أو حماستها أو سخونتها، ولكنها تظل خفقات في القلوب وتنهدات في الصدور، ولا تصل أبدا إلى ذلك السؤال القاطع كالسيف: ثم ماذا بعد؟. ومن التجربة التاريخية فإنه بالوسع توقع ماذا يجري في عواصم العالم المختلفة بعد الاستماع والمشاهدة للمواقف الإيرانية الأخيرة، وبالتأكيد أن رد الفعل المباشر لن يزيد عن مجموعة من التصريحات التي ترفض وتدين وتشعل آلية عالمية للعزلة والإقصاء. ولكن العمل الحقيقي سوف يجري داخل مركز للبحوث، وجماعات لتقدير الموقف، وفي كل الأحوال سوف يجري تصديق ما يقول به الرئيس الإيراني وأخذه مأخذ الجد، وبعدها تأتي الخطط والاستراتيجيات التي تضع نهايات لنظم مارقة أو تبدو خارجة على نواميس وقوانين الطبيعة وتطورها.

هذه الخطط وتلك الاستراتيجيات ليست موضوع هذا المقال، ولكن القضية هي كيف سيكون رد الفعل العربي للمرحلة المقبلة التي سوف يكون عنوانها «المعركة الإيرانية» التي سوف تأخذ المنطقة كلها طوال العقد الحالي وما وراءه، تماما كما كانت «المعركة الناصرية» هي معركة ستينيات القرن الماضي، و«معركة بغداد» هي معركة تسعينياته مع بداية القرن الواحد والعشرين، و«معركة فلسطين» هي معركة كل العقود. ومن المؤكد أن قوى كثيرة في العالم العربي سوف تتصرف كما تصرفت طوال نصف القرن الماضي الذي قضته في انتظار المنقذ الذي يأتي من غياهب الظلمات شاهرا سيفه مبشرا ومنقذا ومنتصرا على كل الأعداء في الشرق والغرب. ولكن هذه القوى كما هي العادة سوف تكتفي بما اكتفت به طوال العقود الماضية هتافا وقصائد وزغاريد وشماتة في الغرب عند حدوث الانتصارات الصغيرة، والبكاء على الأطلال ساعة الهزائم الكبيرة.

الجديد هذه المرة أن العالم العربي يدخل المعركة الجديدة، وهو في بداية مرحلة للتحول والتغير لكي يقترب من عصر ابتعد عنه وقاوم الاقتراب منه وحاول المراوغة فيه. ولكن الأعوام القليلة الماضية كلها أكدت على أنه لا بد من التفكير بما لم يعد ممكنا عدم التفكير فيه، والإقدام على إصلاحات في النظم السياسية والاقتصادية بات مستحيلا تجنبها. ومشكلة الإصلاح ساعة المعركة، وبالذات المعارك العظمى، أنه يعطي البيروقراطية ملاذا ومهربا ومخرجا لإلغاء المسيرة كلها أو تأجيلها. ولمن يلاحظ، فإن زخم التغيير الذي كان ذائعا في العام الماضي ما لبث هذا العام أن فقد قوة الدفع؛ وجاءت الإشارات الأولية غير مشجعة عندما استفاد أعداء التغيير والتقدم من فترة التوتر وإرهاصات المعركة المقبلة.

ويتضاعف الانكشاف الداخلي للعالم العربي بانكشاف خارجي هائل نتيجة الخلل الاستراتيجي للأوضاع العراقية المتهاوية في مواجهة العاصفة النووية الإيرانية. وبشكل ما، فإن تصريحات كثيرة من قادة عرب وأجانب حول حقيقة وجود الحرب الأهلية العراقية، وما وراءها من آفاق التقسيم، خلخل نطاقا استراتيجيا واسعا وممتدا لكل من منطقتي الهلال الخصيب حتى الجنوب عند مضيق هرمز شاملا دول مجلس التعاون الخليجي كلها. ولم تكن أحاديث الانقسام السني ـ الشيعي، ومن بعدها حديث الولاءات الوطنية، وقفزة منظمة حماس في فلسطين للتعاون مع الحكومة الإيرانية، إلا تعبيرات عن عملية استقطاب جارية، وتحالفات تولد في العلن بعد أن عاشت في الأرحام فترة من الزمن.

وببساطة، فإن ما نشاهده من حركة سريعة، وتصريحات نارية، وأفعال وردود أفعال متتالية، ما هي إلا استجابة لحالة الخلل الاستراتيجي والخلخلة التي ولدتها في المنطقة كلها. وحتى هذه اللحظة فإن الدول العربية القائدة ـ مصر والسعودية تحديدا ـ لم تشكل استراتيجية ملائمة للتعامل مع الموقف الجديد الناجم عن الحقائق الإيرانية الجديدة من جانب، والانهيار على الجبهة العراقية من جانب آخر. ومن الجائز تماما للدولتين أن تتصرفا كما تصرفتا من قبل من خلال ردود فعل تقوم على النداءات والحفاظ على القليل من التضامن والتفاهم العربي حول تشاورات وتفاهمات وقتية، حتى إذا ما جاءت لحظة المعركة الكبرى تجرى دعوة القمة العربية لكي تشهد للجميع بأنهم فعلوا ما يستطيعون وما بقي هو نتيجة أقدار غاشمة. ولكن من الجائز أيضا أن يتم التصرف هذه المرة بطريقة مغايرة، فإذا لم نشارك في تشكيل وتركيب المنطقة فإن المنطقة لا تتغير فقط، وإنما تسعى إلى تغييرات في الدولتين بطريقة أو بأخرى. فمن يأخذ المبادأة هذه المرة بعد أن تغيرت كل الأماكن على رقعة الشطرنج ؟!.