شيعة العراق .. الولاء لمَنْ؟!

TT

عاشت البلاد العراقية أزمنة طويلة تحت السيطرة الأجنبية، فهي منطقة وسطى يتقاطع عليها المرور الجوي والبري العالمي، وتنتهي بسواحلها الممرات المائية. غدت متراصة الأقوام والأديان والمذاهب. كل عابر ونازل يترك عليها أثره. وأطول نزول في القرون الأخيرة كان للقدم العثمانية، التي أسست للتمييز الطائفي دعائم بالعراق. بينما خففت الدول السابقة من حدة الطائفية بوزير، أو حاكم مقاطعة أو نديم شيعي، ناهيك بمن احتضنته دار الخلافة من الأديان الأخرى.

أما الدولة العثمانية فوصل الأمر الى أن يعين قاضي شرعٍ شافعي على كربلاء الشيعية قاطبة، وقيل كان القضاة هناك يعيشون البطالة المقنعة، لأنهم لا ينظرون إلا حالات نادرة. وكان للسفربرلك (النفير العام) خلال حروب الدولة العثمانية أثره في تبني الجنسية الإيرانية، وهي جنسية دولة نازعت الدولة العثمانية السيطرة على العراق. وهذا التمييز لم يشمل مَنْ تحدر من داغستان وزهاو، مثلما شمل المتحدر من أصفهان وقم، وكلها بلدان إيرانية، غير أن المذهب كان العلامة الفارقة.

ومع ذلك عندما رست بارجات الجيش البريطاني على شواطئ البصرة هب علماء الشيعة، دفاعاً عن تلك الدولة، وكان في الجبهة (1914-1915): السيد مهدي الحيدري، والشيخ محمد مهدي الخالصي (الأب) والسيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد محمد سعيد الحبوبي، والسيد محسن الحكيم، والشيخ علي الشرقي، والشيخ محمد باقر الشبيبي، وغيرهم من آل الجواهري ومن آل بحر العلوم. وقد قُتل الحبوبي خلال المعارك. وسداً للأقاويل يُعذر العراقيون إن لم يتبنوا الموقف نفسه عند الاجتياح الأجنبي الجديد، فالقسوة وصلت إلى حد يُلام ضحاياها إن منعوا سقوطها. فترة حق عليها قول البديع الاسطرلابي (ت534هـ)، وهو يصف ثلجاً نزل على بغداد، في فترة أقل قسوة: «يا صدور الزمان ليس بوفرٍ.. ما رأيناه في نواحي العراق..إنما عمَّ ظلمكم سائر الأرض.. فشابت ذوائب الآفاق».

ميول شيعة العراق ليست واحدة: نسبة كبيرة من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي كانوا وما زالوا من الشيعة، حتى تبوأ منهم أمانة الحزب العامة: حسين الرضي (سلام عادل) وحميد مجيد موسى. ونسبة غير قليلة دخلت في التيار القومي وحزب البعث، وكان أمينان للحزب شيعيين أيضاً: فؤاد الركابي، وعلي صالح السعدي. وكل ولاءات هؤلاء السياسية والفكرية لا علاقة لها بإيران، ولا تمذهبها الصفوي. ولا يُشك بوطنية الشيوعيين، لكن المزاج السياسي والفكري كان مع عواصم أخرى. كذلك كان مزاج القوميين الفكري والسياسي مع القاهرة. وفي حمأة الخلاف بين العاصمتين أصدر شيوخ الأزهر آنذاك فتاوى تكفر الدولة العراقية غير القومية، ورد عليها عصبة من علماء العراق شيعة وسُنَّة من الأعظمية والنجف. جاء في الرد «من المؤسف أن يتخذ عبد الناصر الأزهر الشريف وسيلة لتحقيق مآربه... بفتاوى دينية تقضي بتجريد صفة الإسلام عن المسلمين»( 23 مارس 1959). والحال نفسها بالنسبة للأحزاب الشيعية، لها تعاطفها الفكري والسياسي مع طهران الإسلامية. لكن لا يعني الولاء أو التعاطف السياسي والحزبي تنازلاً عن الولاء الوطني العراقي، وتؤخذ به طائفة كاملة.

في هذه الساعة بالذات، هناك ما يتعلق بتحديد وطنية العراقي، وما يتصل بموقفه من المقاومة. ما يفهم من الخطاب القومي الإسلامي، الذي قرأنا بعض تعليقاته على ما صرح به الرئيس المصري حول ولاء الشيعة لإيران، أن العراقي المخلص هو العربي فقط! حتى نظر إسلاميون، يخالط إسلاميتهم تشنج قومي، إلى العربي أو العروبي أنه صاحب «القدح المعلى» بالعراق. وهو الذي يفتي ويخطب ضد الاحتلال ويهدد بحمل السلاح. حتى قسموا علماء الدين الشيعة إلى وطنيين و(خونة)! أما الكردي والتركماني والآشوري والفارسي العراقي، فهؤلاء، حسب الفكر القومي، سكان طارئون.

لا أدري هل كان أبو الأعلى المودودي (ت1979)، وهو منبع فكر الإخوان المسلمين في الحاكمية، عربياً؟ أو بررت عروبته باستقرار أجداده قبل عشرة قرون بالهند؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن علماء الشيعة بالعراق، على مختلف قومياتهم وتحدرهم، من هذا الصنف من العروبة، وهم لا يبدلون ذرة من رمل النجف ببساتين خراسان، ويأتي انتماؤهم العراقي عبر تلك العاطفة، ولا تعني العمائم السُود غير نسبهم العلوي. ومثلهم يعتبر علماء جبل عامل، النجف حاضنتهم الأولى، يتعاملون معها مثلما يتعامل المسيحيون العراقيون وغيرهم مع الفاتيكان.

لم يجمع أهل السُنَّة والقوميون العرب العراقيون، بل ولا كل بقية البعثيين، على رفع السلاح ضد الاحتلال بديلاً من العملية السياسية، وراضون على بقر البطون، وقطع الرؤوس تحت ظل مقاومة؟ وليس من الحق نعت الكُرد بالخيانة لأنهم لاذوا بالحماية الأجنبية من إبادات أسلحة الدولة الفتاكة الزاحفة؟ أرى من مصلحة العراقي اليوم، وهو يئن من أثر وطأة الممارسة (العروبية الثورية) أن يتعامل مع الاحتلال بمسلك غير حمل السلاح، الذي يدفع إليه الخطاب القومي الخارجي، مبرراً مقاتل ومهالك العراقيين.

لم يهبط شيعة العراق من كوكب آخر، إنما نشأوا فوق هذه الأرض، وتدرجوا في بناء مذهبهم عبر تجاذب وتنافر، ومظالم ملأت الصدور كراهيةً، وألجأت علماؤهم إلى بيداء النجف (448هـ) وأسسوا حوزتهم هناك، كرهاً لفتنة طائفية ببغداد. وربما مخافة من هول المظالم والمطاردات جعل الشيعة العدل أصلاً من أُصولهم، وبشروا بمقالة: «المُلك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم».

ليست العروبة دائماً عاصمة من الخيانة أو الغلو أو الطائفية. فمَنْ أسس للصفويين تلك المقالات الحادة ضد أهل السُنَّة غير علماء الدين العرب من اللبنانيين! وفي مقدمتهم الشيخ علي عبد العال الكركي (ت941هـ)، الذي استقدمه مع جماعة من علماء جبل عامل الشاه طهماسب الأول إلى أصفهان، وكتب إلى آفاق دولته: «أن تخضع لأوامر وأحكام الشيخ الكركي، فهو أصل السلطنة، انه نائب الإمام (المهدي المنتظر)» (قصص العلماء).

هل مطلوب من شيعة العراق أن يعلنوا ولاءهم لبلادهم مع فروض الصلاة، ومن على المآذن؟ وإلى متى وكم المدى ستبقى فتاوى التعجيم تلاحقهم! أجد أن السرور دخل ولاية الفقيه الإيرانية، التي ما زال الغالب من التشيع السياسي العراقي يمتنع عليها، وهي تسمع أن 65% من العراقيين يوالونها، ويصطفونها على عراقهم!

[email protected]