الظالم المظلوم

TT

أعجبني موقف الطبيب والعالم الألماني (فيراكو)، عندما وجه نقداً لاذعاً للمستشار الألماني الشهير (بسمارك)، فغضب منه المستشار غضباً شديداً إلى درجة انه دعاه للمبارزة (يا قاتل يا مقتول)، ووسط دهشة الجميع قبل الطبيب المبارزة، وهو الذي لم يمسك في حياته سيفاً، غير أنه اشترط أن يختار هو نوعية السلاح الذي يتحاربان به، ووافقه بسمارك على ذلك، فأحضر الطبيب قطعتي سجق متماثلتين تماماً، وقال: إليكم سلاحي، ودهش الجميع من ذلك، وأردف قائلاً إن إحداهما ممتلئة بالجراثيم القاتلة، والأخرى سليمة، وليشرفني المستشار ويختار واحدة ويأكلها، وأنا سوف آكل الأخرى.. فوقف بسمارك صامتاً ثم ضحك وأعلن انسحابه، فنظر إليه الطبيب بازدراء قائلاً: يا جبان، ثم خرج وسط تصفيق وهتاف الجميع، وقد حفظ (بسمارك) ماء وجهه بضبطه لأعصابه، وعدم تعرضه للطبيب العالم.

وإذا كان لا بد من مراهنة وتحد، فلابد أن تكون بين أنداد متكافئين، في ظروف وعوامل مواتية، وإلاّ فقدت (المباراة) قيمتها ومعناها، وأصبحت مجرد عبث محسوم نتيجته مسبقاً.

فلا يمكن أن يتحدى رجل فاحش الثراء، رجلاً فقيراً مدقعاً على أساس أيهما أكرم وأيهما أكثر صرفاً.. ولا أن يتحدى رجل انتحاري مجنون رجلاً عاقلاً على أيهما الذي يستطيع أن يرمي نفسه بالتهلكة أسرع من الآخر.. ولا أن يتحدى مثلاً رجل وزنه أكثر من (150كيلو غراما)، رجلاً صعلوكاً (بالأنيميا) وقرحة المعدة، على أيهما يتناول أكثر عدداً من سندوتشات (الهبمرغر) خلال نصف ساعة.. ولا أن تتحدى حسناء مكحولة العينين طالبة أخرى منقبة من كلية الطب تلبس نظارات سميكة على أيهما التي سوف تنال أكثر من نظرات الإعجاب والتعليقات وصفارات الإنذار.. ولا أن يتحدى سائق (الفراري) سائق (أبو عراوي)، ولا راكب الخيل المسومة راكب الحمير، ولا أن يتحدى الأديب الفحل رجلاً أمّياً بعدد أبيات الشعر التي يحفظها عن ظهر قلب.. ولا أن يتراهن عالم فلك مع راقصة ليل متى سوف تنكسف الشمس.

ولم يتعرض في تاريخ الكائنات على وجه هذه الأرض كائن للظلم أكثر من الإنسان نفسه، ولم يكن هناك ظالم لأخيه الإنسان أكثر منه هو، انه (الظالم المظلوم)، فما أكثر ما تغطرس وتجبّر، بل وقال: (أنا ربكم الأعلى)، ما أكثر ما تهكّم وازدرى ومرغ وجه أخيه بالوحل وداس على رأسه بالحذاء لمجرد أنه اضعف وأفقر وأقل حيلة منه، ما أكثر ما رمى به عرياناً في حلبات مصارعة السباع من دون أن يسمح له باستخدام حتى مجرد (شوكة) للدفاع عن نفسه، ما أكثر ما توطاه تحت سنابك الخيل لمجرد أنه عبد يباع ويشترى. صحيح إن التحدي والرهان والصراع هي الركيزة الأساسية لتقدم الإنسان، وكلها لا غنى عنها، لكنها قد تنحرف عن هدفها ومعناها فتغدو دماراً يفتك بالملايين.. أن التنافس أعظم وأرقى أسلوب إذا ما أُحسن تدبيره، فما أروع التحدي مثلاً في دورات الألعاب الأولمبية، حيث التكافؤ والندية، وحيث النجاح (للأعلى والأقوى والأسرع)، نتحارب بكرة القدم لا بأس، نتبارز بسلاح (الشيش) يا ليت، نتبارى بلعبة (الجومباز) أهلاً وسهلاً، المصارعة ممكن على شرط ألاّ تكون حرة، كل هذه المراهنات والتحديات حلوة و(أمورة)، ومن أراد منكم أن يتحداني برياضة (اليوغا) فأنا جاهز، ولياقتي شبه محترمة.

[email protected]