وهربت وما زلت خائفاً!

TT

عشرون عاماً مضت على انفجار المفاعل النووي في مدينة تشيرنوبل شمال أوكرانيا وبالقرب من حدود روسيا البيضاء، ولولا أن المراصد الفلكية في السويد هي التي أعلنت عن هذا الانفجار لظل سراً لا تعلنه روسيا، ثم أعلنت أخبار الانفجارات المتوالية في المفاعل القديم، وفي لحظات انتشرت المواد المشعة وتساقط التراب الذري ومات مئات الألوف من الإنسان والحيوان والنبات أيضاً.

أخطر من ذلك أنه بعد سنة من الانفجار المروع أجدبت الأرض من الزرع والمياه من الأسماك والسماء من الطيور، وبعد سنة ظهرت النباتات مشوهة الأوراق والزهور، وكذلك الطيور لها أشكال وألوان غير معروفة، وكذلك الأطفال لهم رؤوس الحيوانات وسيقان الحيوانات، فالذي مات استراح وأراح والذي لم يمت أوجع وأبكى.

وابتعد الناس بالملايين عن مناطق الخطر الذي لا يزال يهدد الماء والهواء والتربة، ولكن الحياة أقوى من الموت، فعاد كبار السن إلى المناطق الخطرة، فقد أعلن العلماء أن الشيوخ أقدر على مقاومة التشوهات الذرية وعادوا وعاشوا وما يزالون.

وذهبت إلى أوكرانيا من خمس سنوات واستمعت إلى ما روعني، وتمنيت أن أظل بعيداً، وانشغلت بحال أوكرانيا التي غيرت جلدها من الشيوعية إلى الرأسمالية، رأسمالية الدولة والرأسمالية الوطنية، وكيف تحولت مصانع الصواريخ إلى مصانع للجرارات الزراعية، ورأيت وسمعت عن الرئيس الأوكراني كوتشيما، كيف استطاعت أوكرانيا أن تفلت من قبضة الشيوعية، وسمعت قصصاً للفساد والانحلال هي من نتائج السوق المفتوحة الحرة، وكيف أنه من الصعب أن يكون الشيوعي رأسمالياً دون إفساد وفساد، وقد أشارت كل الأصابع إلى الرئيس وبطانته.

وكان من نصيبي أن أسكن في فيلا وسط غابة، الغابة جميلة، ولما جاء الليل تولاني الرعب، فالليل درجات من الظلام، السماء السوداء والأشجار والظلال وأصوات غريبة في الليل، لا أعرف كيف أسميها، وبرودة الليل، وحدي وسط هذا الرعب، وكل شيء بعيد جداً، لا أعرف أين ذهب الحراس والخدم، ولا يوجد هاتف. وفي حوار مع نفسي قلت: لا بد أن تجد شيئاً من المتعة في كل هذا، لا بد أن تجد ما ترى وما تسمع لكي تكتب وتحكي. ومع ابتسامة البنات الحلوة والزهور البرية والشاي الدافئ والزبد والحكايات التي سمعتها بلغة فرنسية مكسرة وألمانية مدشدشة. سألت: اين نحن من تشيرنوبل؟ فقالت: حوالي مائة كيلومتر. قلت: يا نهار أسود، يعني في قلب الخطر النووي، يعني من 24 ساعة يمكن تحويلي من إنسان إلى قرد إلى حشرة. قالت: ليست خطرة إلى هذه الدرجة، ولكن تناقصت خطورتها. ولم تكمل عبارتها، وجمعت حاجياتي، وقفزت في السيارة لأعود إلى العاصمة وقد تشبعت بكل أنواع الإشعاعات، ولا يبقى إلا أن أنتظر التحول المخيف في جسمي وعقلي، وأحمد الله إن شيئاً من ذلك لم يحدث بعد!