في ذكرى سقوط والدها: تأمل في حديث رغد

TT

تشدني السيدة رغد صدام حسين، مواليد 1968، لمشاهدتها، فهي تملك وجها له حضور، ولدينا في مصر ممثلة شابة تشبهها كثيرا اسمها منة شلبي، أرشحها لأداء دور السيدة رغد، لو كان في نية أحد إنتاج سينمائي لفيلم جديد لاحق بفيلم «الأيام الطويلة» عن مسيرة الوالد.

كل فتاة بأبيها معجبة، هذا حق، والسيدة رغد ابنة صدام حسين، وهي كذلك ابنة مفهومات مختلة تربت عليها حول معنى الشجاعة، ودلالات البطولة، وماهية الوطن و«الرمز» و«القدوة».

تحكي رغد صدام حسين بصدق واضح لحظات هروبها وأمها وشقيقاتها من العراق حين كانت قوات الغزو الأجنبي تتقدم حثيثا لاحتلال «الوطن» يوم 9/4/2003 ـ لم تتطوع للدفاع عن الوطن رغم أنها تملك مسدسا ورشاشا وتجيد استخدامهما! ـ تلمع عيناها وهي تذكر بفصاحة وتفاصيل كيف تلقت تعليمات الوالد أن «اهربوا»، وكيف تنقلت من مزرعتها إلى مزرعة الوالدة إلى مزرعة الخال ومزرعة الأخت، معذرة لقد ضعت تماما بين كل تلك المزارع الموزعة على أفراد العائلة، وهذا القصر، وهذا البيت، وذاك، وتلك، والسيارات، والحراس، والخنادق العسكرية، التي تعلمت أنها مكان الاختفاء الآمن من القصف، وأوامرها التي تم تنفيذها، رغم المستحيل، لإعداد خندق فوري نفذه لها رجال الحماية المكرسين رهن إشارتها. تواصل كلامها باعتداد وثقة عن اكتشافها أنها كانت «مستهدفة!».

في ليلة كانت بغداد تضرب والوطن بأكمله «مستهدف»، تتكلم رغد صدام حسين عن أنها كانت «مستهدفة»!

في ليلة كانت العيون شاخصة تتساءل أين «الوالد» وأين «دفاعاته» واين «حماة الحمى»، كان حضرته مشغولا بتأمين الوسائل لتهريب أسرته، وله عين بعد ذلك ليقول «عراااق» و«عراااقي» منتحلا في المحكمة، أمام عدسات النقل الفضائي، دور الذي استبسل في الدفاع عن «الوطن» ضد جنود الاحتلال، كأننا لم نره يستسلم لجنود الاحتلال وهم يشدونه من حفرة مخبئه.

تقول رغد صدام حسين عن عمها، الذي ظل يهلل بسوقية متناهية وهو بملابسه الداخلية، في قاعة المحكمة يطالب بالعلاج والعناية والرعاية والراحة، تقول عنه: عمي الشجاع البطل، والعم هو العم. صحيح، هذه لديها هي الوشائج التي تعلو فوق كل اعتبار، ولو كان اعتبار الرحمة والعدل والإنسانية لعموم أهل العراق وشيوخه ونسائه وأطفاله المحروقين بالقنابل المحرمة، والشاهدين شهداء في المقابر الجماعية.

تبتسم رغد صدام حسين وهي تشير إلى استتباب «النظام» أيام سلطة الوالد، و«الفوضى» التي تراها الآن تعم البلاد.

نعم يا رغد مؤسف جدا، موجع جدا، محير جدا هذا التناحر بسلاح نسف مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، إنها أفعال بيد تشبه تماما يد «النظام»، كأنها هي، أيام سلطة الوالد غير أنها كانت تنفذ بوسائل «منظمة» و«كاتمة للصوت»، طبق الأصل، التفخيخ والتدمير والهدم والخطف والاقتحام و«استهداف» أمن الوطن ومصالحه وثرواته.

تسخر رغد صدام حسين من ذاكرة الشهود على جنايات سلطة الوالد ونظامه، وتقول إنها لا تتذكر الكثير الذي مر بها منذ ثلاث سنوات، فكيف يتذكر هؤلاء حوادث مرت منذ أكثر من عشرين عاما؟ «رغد» لم تعرف الظلم على حقيقته وفحشه لذلك فهي لا تصدق «ذاكرة» المظلومين التي ستظل، بكل يد مضرجة، تدق الأجراس تلاحق الطغاة والبغاة واللصوص والسفاحين إلى يوم القيامة، أينما كانوا، ومتى كانوا، على كل أرض وفي كل وطن.

بسذاجة، أو بزلة لسان، شككت «رغد» في المشاهد التلفزيونية التي تعبر عن الرفض الشعبي للوالد، لأنها تعرف، بالخبرة السابقة أيام «سلطة» الوالد، أن هذه المشاهد والتقارير والأخبار يمكن أن تزور وأن تلفق. مرجعية موثوق بها طبعا، من ذا الذي يكذب «رغد» في شهادتها على تلفيقات «الوالد»، وتزويره الإرادة الشعبية، بل والحزبية، التي يدعي أنها اختارته اختيارا حرا رئيسا شرعيا للعراق بعد مذبحة «الرفاق»؟

لقد نبهتنا رغد صدام حسين ـ بحديثها الذي بثته قناة العربية مساء 9/4/2006 ـ إلى أن أول قضية يجب أن يحاكم عليها «صدام» هي قضية إهماله الدفاع عن الوطن وحماية العراق ليلة الغزو، بينما كان كل همه وانشغاله موجها لتأمين سلامة العائلة وتسهيل خروجها, حتى تتمكن «رغد» من الاستمرار في العيش. ثم لا تجد بأسا في الاستعانة بالصلاة، والبكاء في السجود، وقراءة آية الكرسي، كما تقول، غير مترددة، وهي بين يدي الله، تدعوه سبحانه وتعالى أن يكتب لها النجاة وللوالد وللأعمام، رغم ما اقترفت أيديهم من المظالم والجرائم والسرقات والخراب والويلات التي تئن منها البلاد: «صنعة أيديهم وحياة عنيهم»!