إيران.. خطر أو نموذج ؟

TT

خلفت تلميحات الرئيس الإيراني المتكررة بأن بلاده دخلت النادي النووي هزة كبرى في العالم العربي، حتى ولو غلفتها اللغة الدبلوماسية اللبقة والقلقة في آن واحد.

وإذا كان بعض المعلقين والمحللين السياسيين العرب ذهب إلى حد مطالبة الولايات المتحدة بالتدخل العسكري لدرء هذا الخطر الذي يتهدد المنطقة الخليجية والدائرة العربية إجمالا، فإن البعض الآخر قد اعتبر أن ردة الفعل الملائمة لمواجهة التحدي الإيراني الجديد هو العمل على امتلاك العرب لسلاح الردع النووي التي يشكل الضمانة الوحيدة لأمنهم القومي.

وليس من همنا تقويم الخطر الإيراني الفعلي على الأمن الإقليمي العربي، وفي الذهن كل الإشكالات والملفات الشائكة العالقة بين الطرفين، وإنما حسبنا الوقوف عند طبيعة النموذج الإيراني القائم ومدى صلوحيته للوضع العربي احتذاء واقتداء، بعد أن برزت أصوات متزايدة تندب التخاذل العربي وتقدم التجربة الباكستانية ـ الإيرانية مثالا ناجحا لولوج عصر الحداثة التقنية المتقدمة وتوظيفها لحفظ المصالح القومية العليا.

ومن المعروف أن هذا المدخل التقني العسكري شكل منذ منتصف القرن التاسع عشر الأفق التحديثي للدولة العربية الإسلامية، سواء تعلق الأمر بدولة الخلافة العثمانية أو بالدولة الخديوية في مصر(أيام محمد علي باشا وأبنائه) أو حتى بمملكة البايات في تونس والمملكة العلوية في المغرب الأقصى.

فقد تقرر لدى النخب الحاكمة ولدى الرعيل الأول من المثقفين الإصلاحيين الذين احتكوا بالثقافة الغربية، أن المسافة الفاصلة بين المسلمين والإفرنج تفسر بالتفاوت في حجم ونوعية القدرات التقنية الحربية وليس بالتفاوت الثقافي او العقدي، ومن ثم فإن الإصلاح المطلوب يتمثل في السعي لتدارك الأمم الغربية في امتلاك هذه الصناعات المتطورة.

وبعد احتلال فلسطين واندلاع الصراع العربي الإسرائيلي، انبنت نظرية الأمن القومي التي بلورتها الأنظمة القومية الثورية على هذا المفهوم ذاته الذي لخصه شعار عبد الناصر المشهور: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».

وانسجاما مع هذا الشعار، عملت الثورة المصرية على بناء قاعدة تقنية عسكرية متطورة بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي، شكلت الصناعة النووية إحدى مرتكزاتها، بيد أن هذا التجربة أخفقت اخفاقا مدويا في حرب 1967 التي كشفت عن هشاشة التقنيات العسكرية المصرية في مقابل التفوق الإسرائيلي المدعوم أمريكيا.وباندلاع الحرب الإيرانية ـ العراقية في مطلع الثمانينات بدأ النظام البعثي العراقي تجربة طموحة لبناء قاعدة تقنية عسكرية متطورة، بتواطؤ أمريكي ـ أوروبي أفضت إلى نتائج بدت باهرة ومثيرة (صواريخ سكود المطورة والأسلحة الكيميائية والبيولوجية ذات القدرة التدميرية الشاملة والأبحاث النووية المتقدمة)، إلى حد أن الإعلام العربي أصبح يطلق على الجيش العراقي في نهاية الثمانينات عبارة «القوة العسكرية الرابعة في العالم».

وقد كشفت حرب تحرير الكويت عن الحدود الموضوعية للقدرات العراقية، التي لم تصمد أمام الضربات الأمريكية الكثيفة، ولم تجد في ضرب الأهداف الإسرائيلية التي استهدفتها، كما أثبتت حرب العراق الأخيرة وهم «أسلحة الدمار الشامل العراقية التي بنى عليه الرئيس الأمريكي بوش «مشروعية» حربه لإسقاط نظام صدام حسين.

وبتفكيك أسلحة ليبيا غير التقليدية بضغط أمريكي، وتجديد كل الدول العربية التوقيع على اتفاقية منع انتشار السلاح النووي، بما فيها مصر التي ربطت في البداية توقيعها بتوقيع إسرائيل على الاتفاقية، يكون الحلم العربي بتحقيق توازن الردع النووي مع إسرائيل قد انهار فعلا.

وقد تزامن هذا التحول الجلي للعيان، مع تطور فلسفة الأمن القومي العربي بتغير استراتيجية ادارة الصراع مع اسرئيل التي أصبحت تراهن على مسار التسوية السلمية مع الدولة العبرية لانتزاع جزء من الحقوق المسلوبة في إطار صفقة «الأرض مقابل السلام» التي تحولت إلى صفقة «التطبيع الكامل مقابل الانسحاب الكامل».

ويتضح هذه الايام من تعليقات الساسة والمحللين العرب أن الخطر النووي الإيراني ربما أصبح أكبر من الخطر النووي الإسرائيلي على الأمن القومي، لأسباب غير معلنة قد يكون من بينها الاعتقاد السائد بأن الصراع مع اسرئيل قد رسم إطاره وإن لم يحسم في الواقع، كما ان المعادلة السياسية مستقرة في تل ابيب، في حين لم تجد الملفات الإيرانية ـ العربية المعقدة طريقها للحل، أي مشكل الجزر الإماراتية الثلاث والمشاكل المتولدة عن الوضع العراقي الجديد..

والخشية قائمة من تداعيات صعود التيار المحافظ المتشدد، الذي أصبح ماسكا بكامل خيوط السلطة، على علاقات ايران بجيرانها العرب.

يشكل هذا الاعتقاد (الذي لا يخلو من تبسيط وخلل في الرؤية) خلفية للموقف المطالب باعتماد العرب المسلك الباكستاني ـ الإيراني التحديث التقني العسكري دون الانتباه إلى أوجه المأزق في هذا المسلك، التي يمكن أن نحيل إلى وجهين منها،

أولهما: أن الصناعة العسكرية تظل هشة ومحدودة الأثر إذا لم تستند لبنية صناعية تقنية كاملة قائمة على حركية انتاج علمي وتقني صلب. فبدون هذه البنية وتلك الحركية، تتحول الصناعة الحربية إلى مجرد أدوات منتزعة من سياقها الموضوعي، فهي في الغالب مجرد تطوير هش لأسلحة مستوردة، بتكاليف باهظة ترهق الاقتصاديات الوطنية الضعيفة، وتعزز موقع المؤسسة العسكرية في الحقل السياسي، مما يؤدي بداهة إلى غلق منافذ الانفتاح السياسي بذريعة الدفاع عن الأمن القومي، كما لاحظنا بوضوح في باكستان التي لا تزال الاستثناء الكبير في محيطها التي شهد في العقدين الأخيرين تحولا متسارعا نحو الديمقراطية التعددية.

ثانيهما: لا يمكن اختزال مقتضيات الأمن القومي في «القوة الصلبة، أي التقنيات العسكرية، بل إن هذه الأدوات لا تشكل سوى جانب محدود من متطلبات هذا الأمن التي يشمل مرتكزات محورية من قبيل فاعلية النظام السياسي وصلابة شرعيته، ومستوى النمو الاجتماعي والاقتصادي، وحركية الانتاج العلمي والتقني، أي كل ما يدخل في خانة القوة الرخوة»، حسب الاصطلاحات الجديدة.