ليت البريسترويكا تعود يوما...

TT

تحذير الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف للولايات المتحدة ـ في مقالة في صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الاسبوع الماضي ـ من «أوهام التسلط» التي تدفعها للاعتقاد بقدرتها على تسوية المشاكل الدولية «بشكل فردي»، ليست مناشدته الاولى لها بالعودة عن تفردها بالقرار الدولي، فقد سبق ان وصفها، في تصريحات اطلقها العام الماضي في نادي كارنيجي (رود ايلاند)، بأنها «منتشية بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم» وحذرها من الحديث عن الضربات العسكرية الوقائية ومن تجاهل مجلس الأمن ومن التخلي عن الالتزامات القانونية.

ربما كان غورباتشوف، أقدر السياسيين ـ غير الاميركيين ـ على تحسس «عقدة المنتصر» التي يأخذ على الولايات المتحدة اصابتها بعوارضها منذ انهيار الامبراطورية السوفياتية، فهو الشاهد الرئيسي على نشوء هذه العقدة وربما المساهم الاول في تغذيتها عبر دوره في «تصفية» الاتحاد السوفياتي آنذاك.

ولكن، حين ينصح غورباتشوف الولايات المتحدة بألا تنظر الى روسيا على انها «شريك من الدرجة الثانية لبناء عالم طبقا للنموذج الاميركي»، يصح سؤاله: لماذا لا يلوم نفسه على الاطاحة بالقطب الدولي الثاني عام 1991 من دون ان يساوم القطب الاول على «ثمن» ما... يوم لم تكن واشنطن بعيدة عن القبول بهذه المساومة؟

أهمية هذا السؤال تعود الى وقع انهيار الاتحاد السوفياتي على ما كان يسمى آنذاك بالعالم الثالث... فإذا كانت الولايات المتحدة تنظر الى روسيا اليوم كشريك «من الدرجة الثانية» ففي أي مرتبة تدرج نظرتها الى دول العالم الثالث؟

هل هي مجرد مفارقة تاريخية أن يصبح معظم المسؤولين السياسيين أكثر حكمة حين يتقاعدون؟ لو كان غورباتشوف أكثر ترويا في تقويمه لتبعات اللحاق بالديمقراطيات الغربية لما عجل في نقل نظامه من نهج البريسترويكا (الاصلاح واعادة البناء) الى نهج الغلاسنوست (التوجه نحو الديمقراطية) قبل ان تنضج مناخات الديمقراطية في بلاده... فساهم بذلك في تفكيك امبراطوريته بسرعة اذهلت حتى الاميركيين.

من المغالاة تحميل غورباتشوف، بمفرده، مسؤولية انهيار الاتحاد السوفياتي، فالانهيار كان، في بعديه السياسي والاقتصادي، حصيلة عملية تآكل سياسي واقتصادي طويلة الأمد بدأت منذ فضح جرائم جوزيف ستالين عام 1956 وانتهت بالضغوط الاقتصادية التي افرزتها حرب النجوم وغزو افغانستان، في الثمانينات... مرورا بعمليات القمع التي واجهت بها موسكو التطلعات الاستقلالية للشعب المجري عام 1956 والشعب التشيكوسلوفاكي عام 1968 والشعب البولندي عام 1981.

ومع التسليم بأن غورباتشوف كان يرغب في اصلاح النظام السوفياتي لا استبداله بنظام آخر، فان تسرعه في الانتقال من تجربة البريسترويكا الى تجربة الغلاسنوست ـ وبتشجيع اميركي واوروبي ـ قوض النظام السوفياتي عوض ان يجعله أكثر انسانية في الداخل، وأكثر انفتاحا على الخارج. وهنا المأخذ الرئيسي على تجربة غورباتشوف، فلو اتجه بنظره نحو الشرق عوض الغرب ووظف البريسترويكا في بناء علاقة ندية مع الشيوعية الصينية عوض التنطح لعلاقة تنافسية مع الرأسمالية الاميركية، لربما تمكن من المحافظة على موقع روسيا الدولي من دون ان يعرض نظامها للزوال.

التاريخ يرفض قطعا منطق الـ«لو»... ولكن «لو» كانت التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي أكثر تنسيقا، ايديولوجيا وتطبيقيا، مع التجربة المماثلة في الصين، ولو طورت هذا التنسيق الى مستوى الشراكة الاستراتيجية، لربما كانت استفادت من التجربة الصينية في تحقيق معدلات مرتفعة للتنمية الاقتصادية وفي «أقلمة» بيروقراطيتها المركزية مع متطلبات العولمة التجارية، وتحاشت، بالتالي، هذا الانهيار المجاني لدولة كانت تفوق الصين ثروة معدنية وتبزها تقدما تقنيا.

ولكن عقدة موسكو كانت دائما الغرب لا الشرق. وحين اعطت علاقتها مع الصين الاولوية التي تستحقها ـ بعد حل المشكلة الحدودية في منطقة خباروفسك عام 2004 ـ قصرت اطارها على تعزيز تعاونهما ضمن إطار منظمة شانغهاي (واهتمامها الرئيسي الحرب ضد الارهاب في آسيا الوسطى).

وفيما كانت روسيا تجهد لمحاكاة الديمقراطية الغربية، سياسيا، كانت الصين تركز على تنمية امكاناتها الاقتصادية من منطلق قناعتها بأن ثقلها الاقتصادي هو ورقة الاعتماد الحقيقية لعضويتها في نادي الدول العظمى، وان القوة الاقتصادية هي الاساس الثابت للقوة العسكرية وليس العكس ـ كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي. (وهي الاستراتيجية نفسها التي يسعى الاتحاد الاوروبي لتطبيقها في وجه الزعامة الأحادية لحليفه اللدود الولايات المتحدة ). وبالفعل حقق هذا النهج للصين «الندية» المطلوبة مع الولايات المتحدة في وقت عجز فيه الاتحاد السوفياتي عن اللحاق بتطورات العولمة.

على ضوء هذه الخلفية كان الاجدى لغورباتشوف من «معاتبة» الولايات المتحدة على تجاهلها لبلاده، حث موسكو على استثمار عاملين يتيحان لها ترتيب بيتها الداخلي تمهيدا لتعزيز حضورها الدبلوماسي في العالم:

ـ العامل الاول اقتصادي يتمثل في توظيف الثروة المضافة التي تجنيها من ارتفاع اسعار النفط الخام في تسريع وتيرة نموها الاقتصادي.

ـ والثاني سياسي يتمثل في استغلال تفاقم مشاكل الولايات المتحدة في الشرق الاوسط (ايران والعراق) وتقلص عدد العواصم الاوروبية المتحالفة مع سياسة «الضربة الوقائية» التي تروج لها (واحدثها ايطاليا) في العودة الى الواجهة الدولية من باب اوروبا لا اميركا.

باختصار، ربما كان الافضل لغورباتشوف من الشكوى من موقع روسيا في نظر الولايات المتحدة ان يكون شعاره اليوم: ألا ليت البريسترويكا تعود يوما... لأخبرها بما فعلت الغلاسنوست.