برقيات وافكار سعودية بين يدي الحوار الوطني للتعليم

TT

عندما كان المفكر والناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي يلقي علينا محاضراته في النقد والنظرية، في مرحلة الماجستير، في جامعة الملك سعود، راح يتحدث عن «النسق المضمر»، المصطلح الذي اخترعه في كتبه الحديثة عن النقد الثقافي، وذكر لنا قصة تؤيد فكرته، يرويها عن أحد أصدقائه العاملين في معهد الإدارة العامة، وهو أنه في نهاية إحدى الدورات الخاصة بمديري تعليم المناطق، وبعد توزيع «الأسئلة» الخاصة باجتياز الدورة فوجئ ـ بعد أن ألقى نظرة شاملة وبحسن نية ـ بواحد من المديرين يغش!

يقول الراوي: عندها أدركت أن التعليم ليس المناهج أو السياسة التعليمية وإنما، بالإضافة إلى ما سبق هو الإنسان أولا وقبل كل شيء، وهو الذي يحكمه النسق الثقافي الذي يعيشه، وهذا النسق له أسهمه المتغلغلة في النسيج الاجتماعي والفكري..

هذا الخلل يسميه الدكتور الغذامي، في كتابه «النقد الثقافي» النسق المضمر، وهو أن مدير التعليم هذا الذي يمارس تلك الخصلة الذميمة المخلة بأدنى مستوى من الأدب الإسلامي والأخلاق الحضارية، إنما هو شريحة من نسق ممتد ومستبد قائم على الانتهازية، وبكونه طالب (المدير) سيظل تلميذا يبرر لنفسه اختراق المبادئ بصفته ما زال على مقعد الدراسة يتعلم..!

هذا الشرخ الرهيب يتغنى فيه مديرو المدارس الفاشلون والعاطلون من القيم الراقية سوى الميكيافيلية الخائبة التي تجعل أقصى درجات طموح التربوي منصبا باهتا يهرب به عن أجواء المدارس المزلزلة، أو شهادة انجاز مجانية من مؤسسة! وبإمكانك أن تدخل ادارات المدارس لترى عشرات الشهادات المجاملة التي تحكي ضجيجا وفرقعات اعلامية خارج المدرسة، وخيبة مؤلمة داخل المدرسة! ويبرر الأذكياء من هؤلاء ذلك بفساد ذلك النظام الاجتماعي، وأن الإنسان عندما يجلس على كرسي العلم كتلميذ فإنه سيظل تلميذا مهما كانت درجته العلمية، وتلك حيل لطالما يعتسفها هؤلاء وفق منطقهم الخاص لتبرير فشلهم وادعاءاتهم الواهية..

تذكرني تلك القصة عندما أقرأ مقالا عن التعليم من صحفي مرموق دائما ما يدق على وتر المناهج فتتبعة بقية الفرقة بهذا اللحن الميت الذي ذاب في مخلفات الذاكرة وأصبح سمعه ذكرى حديث جنائزي طويت صفحته. لا شك أن المناهج لاتخلوا من التطرف، لكنها ليست الوحيدة، ولو استطاع المسؤولون، مثلاً، الغاء المناهج الدينية واقصائها، سيبقى التطرف حيا يرزق لأنه يرعى في أعماق الإنسان، تغذيه طبيعة الحياة والثقافة العربية القائمة على التطرف والحدية، ولا أدل على ذلك من وجوده في أطياف متعددة من المتضادات الفكرية في ساحاتنا المحلية على الأقل..

قال أحد المفكرين الكبار: مشكلتنا أن في نفس كل واحد منا زعيم!

وهذه المقولة لا تبعد عن الحقيقة حتى نجدها تتجسد أمامنا على أرض الواقع، وفي كل معلم من معالم حيواتنا بأنواعها، نختصرها بالنسق الأبوي الذي طالما حذرتنا منه نوال السعداوي..

وحينما يكون التطرف ثقافة يرضعها النشء فإن استئصاله يبدأ من نشر واشاعة ثقافة الديمقراطية والحب والتسامح، ومهما بلغت المناهج من العنف في الرأي والإقصاء فإن الحب الذي احتضن الإنسان سينتصب سيدا للموقف، وسياسة قص الأظافر لن تفلح دون القضاء على المصدر الموجه لهذا المخلب وتلك الأنياب..

أقول ذلك بمناسبة المؤتمر القادم (الحوار الوطني للتعليم)، وما أكثر الحوارات المجاملة التي تتجنب الإثارة خوفا من اتهامات شتى.

عودا على بدء.. لا يمكن اصلاح التعليم إلا بقرار كبير أو انقلاب نوعي يقوده الوزير بشجاعة متخطيا كل نمط فكري متزمت يقف في طريقه، وذلك بحماية المتعطشين للاصلاح على كافة درجاتهم العلمية والإدارية وهؤلاء هم الأمل في الإصلاح من داخل المنظومة التعليمية..

ومن هنا أطرح بنود أعتقد أن مناقشتها في (الحوار الوطني للتعليم) قادرة على تحسين الوضع العام للتعليم، والتخفيف من غلواء التطرف وبث ثقافة التسامح والتنوير الفكري:

1ـ إعادة طرح المفاهيم والمصطلحات التي تثير حفيظة الغلاة وإعادة النظر فيها، وتأطيرها بإطار يسوغ تداولها ويشعر المتلقي بحياديتها وبراءتها مما يشي بجرسها المخيف، أو غرابتها الوافدة.

2 ـ نشر ثقافة الفن، وتقرير المناهج التي ترسخ قيم الفضيلة والسلام والحب كمناهج التربية الفنية والفنون التشكيلية والمسرح والأدب الراقي كالقصة والرواية المختارة بعناية، بل تعليم الفنون كلها بأبعادها وتشققاتها.. 

3 ـ بالمقابل مما سبق الغاء ما يؤدي إلى جعل المتلقي ذا بعد واحد، وحث عقله على الشك والاختيار والمراجعة.

4 ـ محاولة زرع كل ما يؤدي إلى الشعور بالثقة بين الجميع، بالبرامج المكثفة بين كافة أطياف الحقل التعليمي، وتعليم الصغير قبل الكبير ثقافة الحوار وتفعيل قيمة «التعلم»، وصقل عقل التلميذ ونفسه ليكون انسانا قبل كل شيء، ومن ثم ممارسة الحياة للبناء وليس الهدم. 

5 ـ تزويد المجمعات التعليمية (مدارس وغيرها) بالمكتبات والكتب الحديثة، وليست الكتب الصفراء وكتب الوقف ـ مع أهميتها ـ ودعم الوسائل والبرامج المرئية العلمية التي لا غنى للعقل الإنساني عنها. 

6 ـ دعم المدارس بما يريح أعصاب التلاميذ من زرع للحدائق، وصالات الرياضة، واثراء عقولهم وضمائرهم بمسألة وازع الضمير.

7 ـ تبادل التجارب مع الدول الأخرى مما يعزز الاعتراف بالآخر وأهمية معرفته عن قرب مما يؤدي إلى التلاقح الثقافي والحضاري.

8 ـ ايفاد وابتعاث عناصر من التعليم تحسن صورة البلد، وتنقل خبرات وثقافات الدول الأخرى التي سبقتنا. 

9 ـ قمع كل من تسول له نفسه بتصفية حسابات شخصية باتهامات باطلة بعلمانية أو حداثة أو ليبرالية أو خنق خصم في زاوية أو تحريض، واثارة بلبلة تلهي المنظومة التعليمية عن دربها المتمثل في تقديس العمل وحسن الظن بالآخرين.

الموضوع يطول خاصة في حقل التعليم الذي لا تقف أشجانه عند حد، وأعتقد لو نوقشت أجزاء قليلة مما ذكرت لاجتزنا ما لم يكن في الحسبان سياسيا وتربويا.

 *كاتب سعودي

aa_saleem11.yahoo.com