«يالطا» جديدة بين طهران وواشنطن

TT

كل وقت تخلق فيه كلمة أو عبارة من المؤكد أنها تثير الاضطراب عند قولها.لكن في نفس الوقت يمكنك ان تستخدمها لايقاظ من يعانون من السأم في جمهورك أو رميها مثل قنبلة يدوية على حشد مستاء.

ومنذ الاطاحة بنظام طالبان في كابل ونظام البعث في بغداد فان العبارة الراهنة المفضلة هي «تغيير النظام».

وبالنسبة لكثيرين، وخصوصا في التحالف المناهض للحرب، فان تغيير النظام ينتج التأثير ذاته الذي تنتجه الخرقة الحمراء في الثور الهائج. وكلما كانت السياسة الخارجية أكثر تقليدية فان المرشدين الذين لم يتجاوزوا «معاهدة ويستفاليا» يعتبرون العبارة لا أخلاقية. ويجري اقناع المواطن العادي بأنه حتى الحديث عن «تغيير النظام» يجب أن يعتبر الاثم القاتل الثامن.

وعندما تأخذ كل ذلك بالحسبان يمكنك ان تتخيل ما تعرضت له عندما أشرت في عمود نشرته مؤخرا الى أنه ما من دراسة جدية للوضع المتعلق بايران يمكن ان تبعد «تغيير النظام» كخيار تحليلي. فقد رأى بعض الأصدقاء هذا كدعوة الى غزو عسكري لايران. وزعم آخرون انني أحاول ان أورط الولايات المتحدة في مغامرة تستند الى أسس زائفة.

اذن دعونا نبدأ بالقول انني لا أحاول ان أفعل أيا من الأمرين.

فأنا لا أدعو الى غزو عسكري من جانب الولايات المتحدة أو أية دولة اخرى، ليس فقط لأن ذلك سيكون غير وطني من ناحيتي وحسب، وانما على وجه الخصوص لأن مثل هذا العمل غير ضروري.

لنعد الآن الى تحليل الوضع.

يجتاز الشرق الأوسط اليوم ما يعتبره المؤرخون «فقدان التوازن». وهذا يحدث عندما ينهار الوضع الراهن بينما لم يتشكل بعد وضع جديد. اذن من الذي سيخلق توازنا جديدا ويصوغ وضعا جديدا في الشرق الأوسط الكبير؟

لا تقدم الدول العربية، التي ما تزال تعاني من صدمة العراق، وتبتلى بالنزاعات الداخلية وتنتابها الهواجس من اسرائيل، أي مشروع. وأدارت تركيا، التي تعتبر واحدة من القوى الكبرى القليلة في المنطقة، وجهها بعيدا عن ذلك على أمل الانضمام الى أوروبا. ولأسباب جلية تعتبر اسرائيل أيضا خارج هذه اللعبة. وذلك يترك الولايات المتحدة والجمهورية الاسلامية وحدهما في عملية التنافس على اعادة صياغة المنطقة.

السؤال الحقيقي إذن بسيط: هل سيكون الشرق الأوسط الجديد الذي لا بد أن يظهر عاجلا أم آجلا أميركيا أم إيرانيا أم إيرانيا -أميركيا؟

فالولايات المتحدة ترى أن صياغة شرق متوسط صديق للولايات المتحدة ليست أمرا حسنا بحد ذاته فقط بل أساسي أيضا. وهذا الرأي سائد حاليا على الأقل خلال فترة حكم الرئيس بوش. إذ تستند نظرية الرئيس الأميركي إلى مسلمة تقول إن الأنظمة الديمقراطية لا تصدّر الإرهاب أو تبدأ بحروب ضد ديمقراطيات أخرى. لذلك فإن مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية تقتضي تبديل أنظمة معادية للولايات المتحدة بأخرى صديقة لها.

دعونا الآن ننظر إلى الوضع كما ينظر إليه من طهران.

الجمهورية الإسلامية محاطة بأنظمة قريبة لواشنطن أكثر مما لطهران في أقل الأحوال. فماذا سيحدث لنقل بعد عشرة أعوام من الآن: هل ستصبح المنطقة أكثر قربا للولايات المتحدة بما فيها تلك الأقل ثراء والأقل ديمقراطية؟ وهل سيتم عزل الدول المعادية لأميركا أكثر من الوقت الحالي وأكثر فقرا وحينذاك ستبدو الجمهورية الإسلامية ككيان غريب ضمن رقعة الشطرنج.

حسب أحد قوانين التاريخ، لا يمكن لأي أمة أن تلعب دور الرجل الشاذ في منطقتها لفترة طويلة. أنتم لا تستطيعون تصور وجود نظام عسكري في سويسرا بينما كل أوروبا تسودها الديمقراطية.

لذلك إذا سمح للولايات المتحدة أن تكوّن نظاما في الشرق الأوسط تشعر بالراحة معه فإن الجمهورية الإسلامية ستكون كيانا شاذا وستشعر أنها مهددة. وهذا هو السبب الذي يجعل إيران مصممة على عدم السماح للولايات المتحدة بالنجاح في المنطقة. ففي كل بلد من المنطقة ابتداء من باكستان وحتى المغرب نجد أن الولايات المتحدة وإيران منغمرتان بالوكالة بنزاع سياسي ودبلوماسي وأحيانا عسكري بدرجات مختلفة من الحدة. فالجمهورية الإسلامية تخوض بفعالية بعمل دؤوب لتخريب تحقق الخطط الأميركية في أفغانستان والعراق وسورية ولبنان وقامت بإحياء شبكاتها النائمة في أكثر من عشرة بلدان عربية. وليس هناك سوى طريقتين لإنهاء هذه الحرب غير المعلنة بين الولايات المتحدة وإيران.

الأولى هي بتوقيع اتفاق مثيل لاتفاق يالطا بين واشنطن وطهران لتقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ بينهما ووضع قواعد اللعبة ثم إنشاء خطوط حمراء. وهذا سيسمح لتشكل الأمر الواقع كأساس لتوازن القوى بين الطرفين.

ولكن حتى في ذلك الوقت، على المديين القصير والمتوسط، سيكون التوازن الجديد غير مستقر تماما مثلما توازن القوى في اوروبا خلال فترة ما بعد يالطا خلال الحرب الباردة. ثمة مشكلة اخرى تتلخص في ان دولا اخرى في المنطقة – الدول العربية وباكستان وتركيا وإسرائيل ـ ربما لا ترحب بحكم ثنائي ايراني ـ اميركي، وربما تحاول هذه الدول إضعافه.

الوسيلة الثانية لإنهاء الحرب غير المعلنة بين الولايات المتحدة وإيران تتمثل في حدوث تغيير في واشنطن.

على المستوى النظري، يمكن ان يتم هذا العمل بأي من الوسيلتين. فإذا حدث تغيير في واشنطن يقود الى سياسة جديدة تترك بموجبها الولايات المتحدة منطقة الشرق الاوسط لإيران، فإن هذه الحرب غير المعلنة ستنتهي، على الأقل على المدى القصير. وبالمقابل، اذا حدث تغيير في طهران، فإن ذلك ربما يسفر عن ظهور شريك جديد للولايات المتحدة.

لذا فإن «تغيير النظام القائم» ليس عبارة سيئة ينبغي تركها خارج التحليلات، بل على العكس تماما، فتغيير النظام وسيلة مفيدة لتركيز الانتباه على واقع وضع معقد.

ترى، هل تغيير النظام القائم امر ممكن في طهران او واشنطن؟

نعم... لتحقيق تغيير في واشنطن يجب على طهران ان تفعل كل ما تستطيعه للتشكيك في منهج بوش وتصوير ما يحدث في افغانستان والعراق كونه فشلا. وفي هذه الحالة ستجد ايران الى جانبها الكثير من الحلفاء الحقيقيين والمحتملين داخل وخارج الولايات المتحدة يريدون لبوش الفشل وللولايات المتحدة الذل والخزي. لهذا السبب ركز الرئيس محمود احمدي نجاد سياسته الخارجية في خدعة سهلة: انتظار مغادرة بوش للبيت الأبيض على امل ان يهرب من سيخلفه من منطقة الشرق الاوسط.

على الجانب الآخر، اذا قررت الولايات المتحدة تبنى سياسة تقوم على اساس تغيير النظام في ايران، وهو ما لم تفعله حتى الآن، فإنها ستجد حلفاء كثيرين داخل وخارج ايران.

ولكن حتى في هذه الحالة، فإن تغيير النظام لا يعني بالضرورة الغزو العسكري.

الطريقة التي حدث بها التغيير افغانستان تختلف عن تلك التي حدث بها في بغداد. وإذا قدر ان يحدث تغيير في طهران، فإنه سيكون مختلفا ايضا. كما يجب الا نفترض وضع سياسة تغيير النظام موضع التنفيذ الفوري، وذلك لمجموعة من الأسباب. إذ ان الأمر المهم هو إدراك ان الشرق الأوسط لن يخرج من حالة الأزمة إلا في حال إذعان واحد من الطرفين.