أين العمل العربي المشترك ؟

TT

هناك محطات كثيرة يستطيع القلم أن يتوقف فيها استطرادا من أحاديث سبقت،وفيها تم تناول موضوعات لا الت تصر على أن تظل على سطح وفي جوهر اهتمامنا وآلامنا في فصول مأساوية تتابع وتتلاقى في خطوط متقاطعة تنتهي كلها عند حزق قواعد القانون الدولي وأسس التعامل السوي ومراعاة مبادئ الشرعية والإنسانية وتوضح الهوة السحيقة بين ما يرفعه البعض من مبادئ يتشدق بها ويدَّعي أنه يريد أن ينشرها في العالم، وبين ما تكشفه الممارسات الفعلية من نوايا مخالفة تطفئ نور الشمس التي يدعون أنهم يساعدونها على الشروق، بينما هم يدفعون أمامها كل ما يدعو إلى كسوفها ثم إلى غروبها في أفق سماء ليست بها نجوم. محطة أولى هي فلسطين، وتتالي الممارسات التي لا تكتفي بالقتل بالرصاص والقنابل الممنوعة وتدمير البيوت والسيارات على من بها من رجال ونساء وأطفال، بل تستخدم قنابل التجويع والدفع إلى اليأس والقنوط الذي لا يؤدي إلا إلى مزيد من العنف، وإلى منع تطور الأمور الطبيعي من منظمة مقاومة لم تجد أمامها إلا السلاح إلى حكومة شرعية انتخبها الشعب في انتخابات حرة، وكلنا يعرف أن الحكومات عندما تواجه مسؤوليات الحياة اليومية، إضافة إلى مسؤولية الاستراتيجيات الوطنية يختلف طريقها لتحقيق نفس الأهداف الوطنية والقومية، وهي تحقيق الحرية للشعب والاستقلال للوطن.

وتجد إسرائيل للأسف في تلك السياسة مساندة في مواقف كنا نتصور أن من اتخذوها اكثر حصانة، ومنها لحقائق الأمور من أن ينزلقوا ـ مشجعين وممارسين ـ إلى قرارات لا يمكن أن تصب في مصلحة ما يدعون أنهم يريدون الإسهام في إرساء قواعده من سلام وأمن واستقرار للجميع وللمنطقة، ونرى أيضا محاولات للوقيعة بين رأس الدولة والحكومة، وادعاءات بأمور لا تتفق مع الدستور والممارسات السابقة، بل نسمع عن اتصالات مريبة تتصور أن إفشال الحكومة ليس إفشالا للجميع، وأن ذلك يصب في مصلحة غير مصلحة إسرائيل وحدها التي لا تريد إلا الشر للشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه بدون تفرقة بين فئة وفئة وحزب وحزب ومنظمة ومنظمة، وفي إطار ذلك كله، لم اسمع من واشنطن أو غيرها من عواصم تدعي حملها مشاعل التنوير كلمة استنكار أو إدانة ـ حتى لو كانت في خفة ضربة بسيطة على اليد ـ لحادثة قتل طفلة عمرها 8 سنوات وجرح والدتها الحامل وإصابة أشقائها بواسطة صاروخ إسرائيلي من طراز متقدم، وهم سائرون بهدوء في سيارتهم، ولم أسمع تعليقا على استخدام إسرائيل لأموال هي ملك الفلسطينيين لسداد ديون لم يحن وقت سدادها لشركات إسرائيلية ورَّدت بمكاسب كثيرة مواد يحتاجها الفلسطينيون، بينما يمنع توريد تلك المبالغ لمن يشترون بها خبزا واحتياجات ضرورية للشعب الفلسطيني الجائع والمحروم والمظلوم.

وهناك محطة أخرى في العراق الذي طالما تغنى الغزاة بأنهم يحملون إليه الخير والديمقراطية والرخاء، فإذا حاله وحال أهله ما نراه كل يوم من انقسامات وسيل دماء وعجز عن تشكيل حكومة في أجواء من الحرب الأهلية التي تختلف الآراء حول ما إذا كانت قامت فعلا أو أنها ستقوم غدا، مع أن كل مظاهرها من اقتتال الأشقاء وسقوط الضحايا، وتدمير المساجد والمراقد واضحة لكل ذي عين تريد أن ترى.

وهناك محطة أخرى جديرة بالتفكير في إمكانية العدول عن سياسات كان يتم التمسك بها بعناد اقتناعا بأنها في الصالح، ثم اتضح أن الشعب في غالبيته لا يوافق عليها وإن الإصرار عليها سيؤدي إلى مزيد من الاضطراب، وهو موقف سياسي شجاع قد يرى البعض أنه يتم عن ضعف، مع أنه يثير موضوع جوهر الديمقراطية وقوة فضيلة الرجوع عن موقف يعد الموازنة بين نتائج التشبث أو التراجع.

كان يمكن التوقف عند تلك المحطات وغيرها والإسهاب في التحدث عنها، ولكني أريد اليوم أن أتوقف عند محطة جامعة الدول العربية بمناسبة انعقاد مؤتمر الخرطوم وما تواجهه الأمة العربية من مخاطر ومشاكل اعتقد أن الأوان قد آن لنبحث بجدية عن سبب عدم فعالية مواجهتنا لها كأمة عربية يربطها، إضافة إلى كل العوامل الأخرى التي نعرفها وطالما تغنينا بها، وحدة نظرة العالم إليها سواء حاول تمزيقها أو إخضاعها أو استغلالها واستغلال نقاط ضعفها.

ولا يخفى على أحد أن الكثيرين صدموا من قلة عدد الزعماء الذين حضروا قمة الخرطوم بعد أن كانت التكهنات تشير إلى أن العدد سيكون كبيرا، استنادا إلى الاتصالات التي سبقتها والمشاكل المثارة. كما أن الكثيرين أعربوا عن الأسف لأن ما صدر عن القمة كان ترديدا لكلام سبق أن قيل في غالبيته وبعضه ربما انتهت مدة صلاحيته ازاء تطور الأحداث وقليله كان حديثا ينظر إلى المستقبل. وكان هناك تصور بأن بعض ما جرى على طريقة تعديل الميثاق إصلاح أجهزة الجامعة مثل إنشاء برلمان عربي والموافقة على فكرة تشكيل محكمة عدل عربية، بالإضافة إلى التعديلات المتعلقة بالمجلس الاقتصادي بداية حقيقية لأسلوب جديد في تناول الموضوعات، ولكن اتضح أن تعديل الميثاق فيما يتعلق بأسلوب التصويت، وإنشاء أجهزة جديدة ومفوضيات جديدة في وقت تعاني فيه الجامعة من أزمة مالية لم تكف كل النداءات والقرارات والتمنيات لوضع حد لها اتضح أن كل ذلك مس الشكل أو الظاهر بدون أن يغير من الجوهر شيئا ملموسا، وإذا أخذنا مثلا التعديل المتعلق باتخاذ القرارات بالأغلبية فإننا نرى أن المشكلة ليست في اتخاذ القرار، فلطالما صدرت قرارات بالإجماع ومع ذلك لم تنفذ لأن المشكلة الحقيقية تكمن في وجود نية حقيقية للالتزام والتنفيذ وليس مجرد التعهد بذلك، وبالتالي فإن ما تحتاجه الجامعة العربية هو في الحقيقة أن نعمق بين الدول الأعضاء المصالح المشتركة ونركز عليها ونسير في قراراتنا على هديها، وليس هناك ما يمنع من أن نقول بكل وضوح إن موضوعا معينا لم ينضج اتفاق حقيقي بخصوصه فيترك لاتصالات جانبية حتى يتم التوصل إلى اتفاق جماعي يمكن تنفيذه فيكون له تأثيره، وقد يمتد هذا التأثير إلى انضمام بقية الدول المترددة اليه، على أن يراعى دائما أن القرار الذي يتخذه البعض لا يمس مصالح من لم يصبحوا بعد على استعداد للانضمام إليه وكان المتصور أن الاتفاق على عقد قمة سنوية دورية هو بداية الطريق لتحقيق شيء من هذا ولكن القمم اثقلت بجداول أعمال مزدحمة لا يتوفر الوقت حتى لقراءتها، فما بالك بمناقشتها واتخاذ قرارات فيها ليست مجرد ترديد أو ترحيل لقرارات سابقة تستخرج من الأضابير لتسافر من عاصمة لأخرى ثم تعود إلى الأضابير بعد انقضاض السامر، ولذلك فإن فكرة القمة التشاورية هي فكرة صائبة تأتي في وقتها لتتيح للزعماء ـ كلهم أو بعضهم ـ أن يجلسوا معها دون جدول أعمال ودون «زفة» كبيرة من المعاونين ورجال المراسم ليجروا كأشقاء حوارا مفتوحا وصريحا يعرض كل منهم خلاله ما يقلقه وما يهمه، وما يشكو منه وما يتطلع إليه وليس من الضرورة الخروج بقرارات معلنة، أو ببيانات بليغة تغطي صياغتها الرصينة على ضعف مضمونها، بل يخرج الزعماء وقد فهم كل منهم موقف الآخر بدقة ووضوح وحدود العمل المشترك والشروط التي يجب توفرها في أي عمل منفرد أو عمل تقوم به مجموعة منهم، على أن يستمر التشاور بعد ذلك عن طريق زيارات ورسائل ومبعوثين، وأن يمكن بعد فترة تنمو فيها الثمرة في «صوبة» أن تخرج إلى الهواء الطلق ناضجة تماما، يقبل عليها الناس ويجنون منها كل ما خلقته من فيتامينات تجعلها فعالة.

وفي ظني أن هذا الأسلوب هو التدعيم الحقيقي لجامعة الدول العربية، وتحصينها ضد ما تواجهه أجهزتها من صعاب، وإتاحة الفرصة للدول العربية لتعطي كل على قدر طاقتها ليصب في وعاء المصلحة العربية المشتركة، لأني في الحقيقة لا أتصور رغم الخلافات التي تظهر على السطح أن هناك بين مجموع الدول العربية تناقضات رئيسية وعميقة تمنعها من أن تواجه التحديات والتناقضات الحقيقية بينها جميعا من ناحية وبين قوى ـ مهما كانت نواياها ـ فإن أفعالها تسيء للعرب كل العرب لا تفرق بين من يبتسم ومن يكشر عن أنيابه ومن يتحدث ويتصرف بهدوء وحكمة ومن يزمجر مطالبا بحقه.

لعل فكرة القمم التشاورية التي ظهرت فيما أتصور لأن افكار إصلاح النظام العربي التي حاولت أن تستند إلى النصوص والمواثيق والشكليات قد أثبتت انها من قبيل النوايا الحسنة التي تخلق حالة من الرخاء بالنفس لا يدوم مفعولها إلا قليلا.

لعلي أكون أنا أيضا أسرفت في الحلم وربما أكون تجاوزت، ولكنني مقتنع بأننا كعرب نمر بمرحلة خطيرة، فقد سقطت بغداد، وتستعد قوات الناتو لتهبط في دارفور، وشعب فلسطين يتعرض لإبادة سياسية وعدوان فعلي، وجيران لنا نريد صداقتهم وإن كنا لسنا دائما قادرين على استقراء مكنون نواياهم، أقول إنني مقتنع بأننا في حاجة إلى أن نتعلق بالأمل في أن تخرج من الأفكار المتعددة فكرة ليس فقط لها بريق، ولكنها تفتح الطريق إلى تحقيق الحلم الذي وصل الأمر للأسف ببعضنا إلى اعتباره سرابا وما هو بسراب.