رجل من طقوس الماضي

TT

فقدنا والد زوجتي عن 92 عاماً عاشها في كرامته. وكان الرجل ضابطاً متقاعداً في الجيش. وقد اكتشفت بوفاته ان الضباط يتقاعدون، لكنهم لا «يتركون» الجيش. فالجيش هو الذي تولى عن العائلة الاشراف على جميع المراسم: سياراته وعرباته وجنوده، وعلمه، الذي استعاده قبل الدفن، من اجله ضابط آخر! واكراماً للجيش تمثلت جميع القوى المسلحة بالبزات الاحتفالية. ولم اكن اعرف شيئاً عن هذه الأخوة في السلاح.

على ان الرجل تقاعد منذ 37 عاماً وارتدى الثوب المدني وظل عسكرياً في كل شيء. وكنا في العائلة نضحك من عاداته ومن مبالغته في ضبط كل ايقاع. اذا كتب رسالة عادية، حاول ان تكون بأجمل ما يمكن من خط. واذا جلس يحل شبكة الكلمات المتقاطعة احاط نفسه بالقواميس كأنه مكلّف تنقيح «لسان العرب». وقبل وفاته بشهر واحد ذهب الى بلدته وودع رفاقه واقرباءه، مؤكداً انها آخر زيارة له. وبعدها دعا صهره الأكبر سناً وسلمه «جميع اوراقه». وكانت عبارة عن تركة نقدية توزع على بناته الثلاث. ومبلغ آخر هو كلفة مراسم الغياب. بالتفصيل: ثمن النعش. وكلفة البّن والسجائر للمعزين. ومكافآت النوادل. وكلفة النعي في «النهار» و«السفير» على مدى ثلاثة ايام. وما يبقى من هذا المبلغ يذهب الى المحتاجين. وقد بقي اكثر من نصفه.

كذلك أوكل الى صهره توزيع موجودات بيته المتواضع: الانسكلوبيديا لحفيده الأكبر، وهو الآن مدير محطة تلفزيونية في المغرب. وللحفيد نفسه ترك صينية قهوة عتيقة، كان يلعب بها وهو صغير، متخيلاً انها مقود سيارة مفترضة. وترك له ايضاً ملعقة خشبية كان يتخيلها مغير السرعة! وترك لي جميع القواميس، ومخطوطاته عن المفردات اللغوية، ومجموعة مؤلفات تشرشل. كما خصني بقلم «باركر فيفتي وان»، هو الثاني عندي. الاول تركه لي جدي. وترك سيفه العسكري وبطاقته العسكرية لصهره الأكبر، الذي هو جنرال متقاعد. وترك له مسدسه العسكري، الذي لم يفتح قرابه الجلدي طوال حياته.

كل شيء آخر، ترك للمحتاجين، غرفة الجلوس وغرفة الطعام وغرف النوم. وقبل 3 اسابيع من وفاته طلب ادخاله الى المستشفى. دائماً على نفقته الخاصة. وقبل 3 ايام من وفاته، وزع على الممرضين والممرضات «مكافأة لا تليق بمن لا يكافأون». وشكر طبيبه مصافحاً بيديه الاثنتين، قائلاً له: «لا تعذّب نفسك بعد اليوم». وادت له الشرطة العسكرية تحية الغياب. كان رجلاً من الماضي.