قضية وسؤال: الصحراء الكبرى.. واصلة أم فاصلة

TT

بعض الناس يقرن الأفريقانية باللون أو بالإثنية ويتخذ من الصحراء الكبرى فاصلا يعزز نظرته المغلوطة والتي تناقض الحقائق الجيوسياسية، والثقافية، والتاريخية. ولإثبات بطلان تلك النظرة أقول:

ـ في كتاب «أثينا السوداء» لكاتبه مارتن برنال. أسهب الكاتب في بيان الأصول الأفرواسيوية للحضارة الإنسانية سيما حضارة أثينا. وفي كتاب أصول الحضارة المصرية القديمة بين العالم السنغالي الشيخ انتيا ديوب الصلة الوثيقة بين أفريقيا جنوب الصحراء ومصر الفرعونية.

وفي كتاب نوبيا: رواق أفريقيا أوضح العالم الأمريكي وليام آدامز دور الحضارة الكوشية في الحضارة المصرية ودورها الواصل بأفريقيا جنوب الصحراء. والحضارة الكوشية وعاصمتها مروي السودانية استمرت لمدة ألف عام أي لمدة أطول من كل الحضارات المعاصرة لها وتداخلت مع مصر الفرعونية. والأسرة الخامسة والعشرون من فراعنة مصر كانت كوشية.

اللغات السامية عبرت البحر الأحمر إلى إثيوبيا وإريتريا، فيما دخلت الديانة القبطية القرن الأفريقي واستوطنت في مصر والسودان وأثيوبيا وإريتريا منذ القرن السادس الميلادي.

جنوب الجزيرة العربية خاصة اليمن ارتبط ارتباطا وثيقا بالساحل الشرقي لأفريقيا في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

في الفترة ما بين 1050م ـ 1750م تمدد الإسلام سلميا جنوبا وشرقا عبر الصحراء الكبرى، وغربا عبر البحر الأحمر، وجنوبا عبر وادي النيل. ونتيجة لذلك أسلمت شعوب زنجية وحامية في غرب ووسط أفريقيا. وفي غرب أفريقيا قامت ممالك كبرى مثل غانا ومالي. وفي المنطقة الوسطى من غرب أفريقيا توغل الإسلام في النيجر، إلى بلاد الهوسة، إلى برنو، وغانم، ووداي.

تفاعلت اللغة العربية مع اللغات الأفريقية وبحروفها كتبت تلك اللغات. وكانت اللغة السواحلية وهي مهجنة من العربي والبانتو لغة كل الساحل من ممباسا إلى مقديشو. وللغة العربية تأثير واضح في لغات أفريقية أخرى كالصومالية، والهوسة والفلانى، مع أن الإسلام تمدد في أفريقيا جنوب الصحراء سلميا فإن قيادات أفريقية في شرق وغرب القارة مارست جهادا وأسست دولا كبرى أمثال الشيخ عثمان دان فوديو والشيخ عمر الفوتي. واشتهر كثيرون بالعلم وأسسوا فروعا للطرق الصوفية الوافدة وبعضهم أسس طرقا أفريقية المولد مثل أحمد وبامبا. هذه الأنشطة التي صحبها نشاط تجاري كبير ودعم روافدها طريق الحج الذي لم يكن مجرد قافلة مسافرة بل أشبه بمدينة متنقلة تعني أن البحر الأحمر، والمحيط الهندي، والصحراء الكبرى كانت موصلة دينيا، وثقافيا، واقتصاديا، وأنثروبولوجيا. البحر الأحمر نفسه أخدود شق غرب آسيا «الجزيرة العربية» وشرق أفريقيا. والاتصال البشري بين الضفتين كان قائما مما يفسر التداخل البشري بين الضفتين والوجود السامي في منا طق كثيرة من أفريقيا جنوب الصحراء قبل الإسلام.

النتيجة الأنثروبولوجية لهذه الحقائق هي أن أغلبية عرب العالم اليوم أفارقة، وأن أغلبية سكان أفريقيا جنوب الصحراء مسلمون.

قال بازيل دافدسون في كتابه – عودة للحضارة الأفريقية أن الفهم السائد في أوروبا حتى القرن التاسع عشر هو أن أفريقيا جنوب الصحراء جغرافيا بلا تاريخ. وأنها ما دخلت التاريخ إلا بعد الغزو الأوربي. كان هذا فهما أيديولوجيا برروا به الغزو الاستعماري وسياسات التمكين لمصالحهم وثقافاتهم على حساب التراث الأفريقي لاسيما الروابط الدينية والثقافية والاقتصادية بين شعوب أفريقيا شمال وجنوب الصحراء. والأوربيون على مستوى المعرفة الأكاديمية أدركوا الحقيقة بشأن التاريخ الأفريقي قبل الغزو الأوربي ولكن السياسة الاستعمارية الأوربية حاولت محاصرة الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء، وطمس علاقاتها بالثقافة العربية، واستبدال كتابة اللغات الأفريقية من الحرف العربي للحرف اللاتيني، وإقامة علاقات اقتصادية وتجارية بديلة. النخب التي نالت تعليمها على أيدي المبشرين والسلطات الاستعمارية نخب تتحدث الفرنسية، والإنجليزية، والبرتغالية، والأفريقانية «مهجنة من الهولندية» وتدين بالمسيحية الغربية بمذهبيها الكاثوليكي والبروتستانتي.

والاختيار الأطلسي الأمريكي الأوربي الآن هو التعامل مع أفريقيا جنوب الصحراء باعتبارها هي أفريقيا والتعامل مع الشمال الأفريقي من منطلق الشراكة المتوسطية «ي البحر الأبيض المتوسط»

هذا الاتجاه تعززه مستجدات في السياسة الدولية الراهنة:

* الحرص الأمريكي على المعاملة الخاصة مع بلدان جنوب الصحراء وهو حرص يدعمه اللوبي الأمريكي من أصل أفريقي وهو لوبي بالغ الحساسية للمعاني اللونية والإثنية.

* تركيز إسرائيل على الفصل بين دفتي الصحراء باعتبار أن جنوب الصحراء اكثر استعدادا لقبولها.

المخاوف الأمريكية من المخاطر في الخليج والتطلع لتنويع مصادر البترول وزيادة نسبة البترول الأفريقي في وارداتها. هذا التركيز على الصحراء الفاصلة بين جنوبها وشمالها يجد تأييدا كبيرا من بعض القادة مثل الرئيس اليوغندي موسفيني الذي صنف الأفارقة أربع طبقات الأولى هم سكان جنوب الصحراء، والثانية هم المهاجرون من جنوب الصحراء، والثالثة هم سكان شمال الصحراء، والرابعة هم البيض من سكان أفريقيا. هذا الفهم منكفئ ومناقض للحقائق الجيوسياسية وهو ضار بشعوب المنطقة ويناقض الروابط الدينية، والثقافية ويضر بالمصالح المشتركة.

* أفريقيا جنوب الصحراء مصدر طاقة كهروبائية هائلة تجد لها سوقا عربية كبيرة.

* البترول العربي يمكن أن يمد الدول الأفريقية غير النفطية.

* الدول الأفريقية يمكن أن تحصل على أفضل أموال استثمارية من مصادر عربية.

* النيل وحدة مائية لكافة دول حوض النيل وهو واصل لسكان الدول المتشاطئة عليه.

* الاستثمار العربي في أفريقيا جنوب الصحراء افضل وسيلة لتحقيق الأمن الغذائي العربي الأفريقي. الحقيقة هي أن مجالات المصالح العربية الأفريقية المشتركة واسعة ولكن الأمر يحتاج للإرادة السياسية وآليات العمل المشترك.

في النصف الأول من شهر أبريل 2006م دعت القيادة الشعبية الإسلامية لعالمية إلى ملتقى كبير في مدينة تمبكتو عاصمة مملكة مالي التاريخية احتفالا بذكرى مولد النبي (ص) إحياء ذكرى تمبكتو التاريخية. كان الحشد عظيما أمه رؤساء دول وممثلون لقبائل وجماعات من المجتمعات المدنية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وآخرون. كنت ووفد كبير من هيئة شؤون الأنصار ضمن الحاضرين وكانت الرؤى والمشاعر حول ما ترمز إليه تمبكتو غزيرة ودافئة. إن قوى الهيمنة الدولية تريد الصحراء الكبرى فاصلة. والتاريخ والجغرافيا ومصالح شعوب المنطقة تريدها واصلة.

الاستعمار حاول أن يطبق على نطاق أفريقيا جنوب الصحراء ما طبق الإنجليز في السودان تحت عنوان «سياسة الجنوب» بعض الأفارقة ومن منطلقات اثنولوجية ولونية يتمسكون بهذا الفصل تحت شعارات جديدة.

نظام «الإنقاذ» في السودان بتهوره المعهود طبق سياسات دينية وثقافية إقصائية في وقت كانت فيه التجربة السياسية السودانية تتطلب نهجا مخالفا تماما معترفا بالتعددية الدينية والثقافية والجهوية، فعرض البلاد لاستقطابات حادة نالت من وحدتها.

النهج الصحيح في أفريقيا هو التخلي التام عن الأفريقانية المقيدة اثنيا، والإسلاموية المقيدة دينيا، وتعريف الأفريقانية بصورة تناسب الحقائق الجيوسياسية والتاريخية وتسع كافة أديان، وثقافات، وإثنيات القارة الأفريقية. والتخلي التام عن الفهم الإقصائي للإسلام فهم «الإنقاذ» وأخواتها وفهمه بالصورة التي توجبها قطعياته، كافلا للحرية الدينية معترفا بالتنوع الثقافي والإثني مستعدا لاستصحاب المستجدات ومستحقا أن يوصف بأنه دين الإنسانية.