كاريكاتير فلسطيني: لا عملية سياسية.. ورفض لمواجهة النتائج

TT

ذهب الفلسطينيون دائما إلى التسوية السياسية من خلال دعم عربي وترحيب دولي. وها هم بعد ثلاثة عشر عاما من اتفاق اوسلو، يجدون أنفسهم في ورطة من نوع غريب، فقد تخلت جميع الأطراف عن مسؤولياتها تجاه عملية التسوية. إسرائيل أنهت اتفاق اوسلو، وأنهت منهج التفاوض، وبدأت تعمل من أجل حل منفرد ومفروض. والأطراف الدولية الراعية للتسوية انسحبت وألغت رعايتها، وقدمت دعما وتفهما لخطط إسرائيل المنفردة، ولم تعد تجد قولا تقوله سوى الحديث عن «فساد» سلطة حركة فتح، و«إرهاب» سلطة حركة حماس، مع صمت مطبق يصل إلى حد التحريض عن إجراءات إسرائيل العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين. أما الأطراف العربية فهي ترفض الإقرار بما يحدث أمامها، ولا تزال تواصل الحديث وكأن عملية التسوية قائمة ومستمرة، وهي لذلك تطالب حركة حماس بالاعتراف بالاتفاقات التي نقضتها إسرائيل، والإعلان عن الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل، والإعلان عن وقف المقاومة ضد الاحتلال، حتى يمكن التعامل معها، أو حتى يمكن استجداء الغرب من جديد من أجل العودة إلى تقديم المساعدات.

إنه وضع كاريكاتوري، مأساوي، خطير، وهش. ومع ذلك فإن أحدا لا يذهب إلى جوهر الموضوع ليحدده. وجوهر الموضوع أن عملية التسوية قد فشلت، ولا أحد يريد الاعتراف بهذه الحقيقة ويواجه تبعاتها، والتبعات هنا تنطوي على احتمالات الفوضى، بل وحتى احتمالات الحرب، أو احتمالات اندلاع مقاومة شعبية عربية أوسع وأشمل.

عام 1973 أنجز العرب حرب رمضان، وتجاوب الفلسطينيون مع نتائج الحرب، وأعلنوا عن «برنامج النقاط العشر» الذي يفتح باب المشاركة في التسوية السياسية. وعام 1991 وقعت حرب الخليج الثانية، والتي أثمرت عن مؤتمر مدريد، وتجاوب الفلسطينيون مع رغبة العرب بحضور ذلك المؤتمر، وذهبوا إليه متفائلين بإمكان الوصول إلى تسوية سياسية تبلورت في اتفاق اوسلو عام 1993.

وها نحن الآن أمام فشل معلن لمسيرة التسوية السياسية، وأمام عدم اكتراث أميركي وغربي بهذا الفشل، إنما من دون أن يكون هناك موقف سياسي عربي، لا موقف قابل ولا موقف ضاغط ولا موقف مستنكر. إنها حالة من الخواء، ومن اللا وزن، ومن الغياب، وهي حالة خطرة يحذرها السياسيون ويخافون منها، لولا أن كثيرا من السياسيين العرب، وبخاصة الذين تعودنا أن يكون لهم موقف القيادة والريادة، قد تجاوزوا حاجز الخوف، لا ليصلوا إلى شجاعة المواجهة، بل ليصلوا إلى سكينة البلادة.

وقد أصبح هذا الموقف الذي نقوله هنا منشورا على صفحات الصحف في العالم كله. فها هي صحيفة «الاندبندنت» البريطانية تقول «منذ أن وصلت حماس إلى السلطة في الجانب الفلسطيني، ومنذ أن وصل ايهود اولمرت وحزبه «كاديما» إلى السلطة في إسرائيل، فإن هناك فراغا سياسيا كبيرا في قلب المنطقة»، وتضيف «لا داعي للحديث عن تذبذب العملية السلمية. لا توجد عملية سلمية أصلا، فأولمرت يرفض الحديث إلى حماس، أو حتى إلى الرئيس الفلسطيني».

والمؤسف حقا، أن فريقا أساسيا في السلطة الفلسطينية، يتجاهل هذا الواقع، ويحاول أن يحصر المشكلة كلها بمنهج حركة حماس. إنه يعرف أن التسوية السياسية أصبحت لاغية، ولكنه ينأى بنفسه عن الاعتراف بذلك، وبدلا من بدء تشاور معمق لبحث كيفية مواجهة هذا الوضع المعقد يتم الاكتفاء بسحب الصلاحيات من الحكومة وإلحاقها بمؤسسة الرئاسة، فالتفاوض (وزارة الخارجية)، ومؤسسات وفا والإذاعة والتلفزيون (وزاة الإعلام)، وأجهزة الأمن (وزارة الداخلية)، والمعابر وما فيها من استيراد وتصدير (وزارة الاقتصاد)، كلها أصبحت الآن ملحقة بمؤسسة الرئاسة. والاعتراض الرئيسي هنا ليس على الصلاحيات، بل حول السؤال الملح: وماذا بعد؟ هل سيؤدي هذا الإلحاق إلى فتح طريق التسوية السياسية من جديد؟ الجواب هو «لا» قاطعة ترفعها إسرائيل في وجه الجميع، وفي وجه مؤسسة الرئاسة أيضا.

والأدهى من ذلك أن إسرائيل تشن حربا يومية ضد الفلسطينيين يقتل فيها الناشطون والمدنيون العزل سواء بسواء، من دون أن يكون هناك اهتمام جدي بضرورة الرد على هذه الحرب، لا بالسلاح ولا بالدبلوماسية ولا حتى بالتصريحات المحذرة، بينما نسمع هذه التحذيرات فقط عندما يتم تنفيذ عملية انتحارية في تل أبيب. تقول إسرائيل إنها تطلق 300 قذيفة في اليوم على قطاع غزة من أجل ايقاف صواريخ القسام، ولكن هذا الادعاء تنفيه صحيفة «لوموند» الفرنسية، التي توضح أن القصف هو من أجل ايذاء المدنيين. ففي رسالة مبعوثها الخاص يوم 13/4/2006 نقرأ ما يلي «هيكل لجهاز استقبال تلفزيوني يرقد في حطام بيت عائلة «غبن» في بيت لاهيا في شمال قطاع غزة. بل الهجوم بدقائق، قامت هديل وعمرها ثماني سنوات، بإطفاء جهاز التلفزيون لتسمح لأخيها الأكبر الذي يحضر لشهادة التوجيهي، بالدراسة بهدوء. تروي الأم صفية : فجأة استؤنف القصف الإسرائيلي، وأخذت الانفجارات تقترب منا، جمعت أطفالي حولي ومنعتهم من الخروج. بعد ثوان شعرت بألم قاصم في ظهري وبضربة على رأسي، رأيت كتلة من النار، وفقدت الوعي». وعندما صحت الأم في المستشفى، علمت أن ابنتها هديل ماتت، وأن أطفالها التسعة الآخرين كانوا جرحى، ثلاثة منهم بحالة الخطر». ومع ذلك فإن مندوب أميركا في مجلس الأمن رفض الموافقة على بيان يطلب من إسرائيل وقف هجماتها ضد المدنيين، وحين قيل له إن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي تدعم موقف إسرائيل، أجاب بصلف «إنه مصدر فخر لنا أن نكون الدولة الوحيدة التي تلتزم هذا الموقف».

تريد إسرائيل من وراء هذه السياسة الأمنية القاسية أن تصنع «إسرائيل محصنة».. محصنة بقوتها العسكرية، ومحصنة بالجدار العازل، ولكن عملية تل أبيب الانتحارية الأخيرة برهنت أن هذا التحصين غير ممكن، وأن قتل الأطفال الفلسطينيين في بيوتهم لا بد أن يؤدي إلى اندفاع شباب فلسطيني للقيام بعمليات انتحارية، لأنهم لا يستطيعون أن يروا جسد الطفلة هديل وقد ماتت إلى جانبهم. إنه وللأسف دم بدم. لأن هذا هو الذي تمارسه إسرائيل، وهذا هو الذي تريده إسرائيل.

لقد بدأت الحملة العسكرية على قطاع غزة، بأمر عسكري يسمح بقصف مدفعي تصل فيه القذائف إلى 300 متر من السكان المدنيين، ثم صدر أمر آخر يسمح بقصف مدفعي يصل إلى حدود 100 متر فقط حتى لو أدى ذلك الى إيذاء المدنيين، وحين احتج بعض الضباط الإسرائيليين قائلين لوزير الدفاع شاؤول موفاز «إنهم يشعرون بالاحباط لأنهم لا يريدون أن يصبحوا قتلة أطفال»، أجابهم بأن قيادة الجيش لا تتعامل مع شيء اسمه الإحباط بل مع تنفيذ الأوامر لحفظ الأمن. وهذا ما نقول إنه دم بدم، تعمل إسرائيل على أن تدفع نحوه الصراع مع الفلسطينيين، من دون أية رؤية واعية للمستقبل.

ولكن نهج «دم بدم» فوق الأرض الفلسطينية لا يمكن أن يبقى محصورا فوقها، ولا بد أن تكون له تأثيراته وامتداداته إلى الأرض العربية. الجمهور العربي لا يمكن أن يبقى صامتا وهو يراقب هذا الذي يجري هناك، ولا بد له أن يتحرك. وهو يمكن أن يتحرك في إطار الأنظمة العربية حين يكون لديها تحرك سياسي جدي وفعال، ولكن الخطر في الأمر أنه قد يتحرك خلافا لما تريده الأنظمة إذا ما لمس لديها موقفا متهاونا وسلبيا. ولهذا فإن جزءا أساسيا من التحرك العربي لصد الموقف الإسرائيلي، ودعم الفلسطينيين بقوة، هو في جانب منه حماية للأنظمة نفسها. أما حين تبخل بعض الأنظمة وترفض تقديم دعم مالي للفلسطينيين، خضوعا للضغوط الأميركية، وحين تتقاعس بعض الأنظمة ولا تجرؤ على إعلان موقف سياسي ضد ما تفعله إسرائيل، أو ضد الدعم الأميركي لما تفعله إسرائيل، فإنها تساهم بذلك في مد سياسة «دم بدم» إلى خارج الأرض الفلسطينية.

تقول صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية المؤيدة لإسرائيل، إن صنع إسرائيل محصنة لن يمنع الهجمات الانتحارية. ويمكن لأي صحيفة عربية أن تقول إن بناء سياسة عربية متخاذلة سيشجع وصول التوتر إلى أية عاصمة عربية.