أوركسترا قوى الشدّ إلى الوراء!

TT

في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات فكرية، تدعو إلى ضرورة إحداث ثورة ثقافية في العالم العربي والإسلامي وأنّ لا بديل عنها إذا ما أردنا لأمتنا الوجود فعليا، نجد أنّ أصواتا أخرى مضادة وفاعلة تؤسس في الواقع الاجتماعي والثقافي لحالة من الانغلاق والتطرف مع التنظير لخيار العنف بشكل مستبطن وغير صريح.

وقد تضمنت الدعوة إلى الثورة الثقافية التي أطلقها جمع من المثقفين العرب مسألة المراجعة كمفهوم أساسي للإصلاح وللتغيير. من ذلك التركيز على ضرورة التمييز بين سلطة الدين وسلطة العادات والتقاليد الموروثة والتمييز بينهما من خلال الفصل ومحو الخلط التاريخي والاجتماعي بينهما. وأيضا أهمية مراجعة المنظومة القيمية وبناء الإنسان في الفضاء السوسيولوجي العربي والإسلامي من الداخل، وإعادة الاعتبار للفكر وللحرية وللعمل وللفرد قصد الالتحاق بالركب ومحاولة خلق بقعة لنا ولو صغيرة في العصر الحالي أي عصر تكنولوجيا المعلومات لاسيما وأننا كنا غائبين بامتياز في مختلف العصور العلميّة الأخيرة.

في مقابل هذه الأطروحة التي يتبناها ليبراليون وحتى الشق الإسلامي التقدمي المنفتح والتي تسعى إلى البناء وتقوم على بعد تنويري تحديثي، نلحظ في هذه الآونة بروز حالة من الشد القوي إلى الوراء بدأت تتشكل ملامحها حتى في تلك البلدان المعروفة، بأنها أكثر التجارب العربية علمانية وتحديثا. وهي دعوة مضادة لأطروحة التحديث وتتميز بأنها وللأسف أكثر قدرة على اختراق مجتمعاتنا المتأرجحة والتأثير عليها وذلك لعدة اعتبارات أهمها:

ـ ثقافة الانغلاق والأصولية لا تتطلب بذل أي جهد، فهي تساعد على الاسترخاء وتنمي الأوهام وتعطل العقل عن أداء وظيفته في النقد والتجاوز والحوار والشك والأخذ والعطاء.

ـ هذه الثقافة تعزف على أوتار حساسة في تركيبة الإنسان المسلم وتلعب على طاقة الانفعال البدائية والمعصوبة العينين التي بداخلها.

ـ إنّ ثقافة التطرف لها احتياطي جماهيري كبير وقنوات تبليغ وتبرير الخطاب بأكثر من وسيلة ورأس مال ضخم وإمكانيات إعلامية مسيطرة اليوم على الإعلام العربي السمعي البصري بشكل أساسي.

ـ أصحاب ثقافة الانغلاق، بحكم الدعم المالي الذي يتمتعون به، تمكنوا من الاستفادة من وسائل الإعلام والاتصال الحديثة بشكل أقوى من التيارات الليبرالية الفقيرة ماديا والمحسوبة على ثقافة العلم والاتصال والمعلومات وغير ذلك. وهنا تكمن خطورة خطاب الانغلاق والإقصاء والعنف. خطاب رغم الغوغائية والمباشراتية والدس المكشوف إلا أنه خطاب اعتمد أدوات تشير إلى الذكاء ويكفي مثلا أن أسامة بن لادن والزرقاوي وغيرهما الذين يرجمون كل نموذج ثقافي آخر، هم أكثر من وظف تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.

إنّ خصائص الخطاب المتطرف أصبحت ظاهرة في أكثر من فضائية وفي عدة مواقع إلكترونية إلى درجة أنّ المشاهد العادي بات ينتبه أنه أمام بوق دعائي لرؤوس خطاب الإرهاب والتطرف وأن تلك الوسائل الإعلامية تجاوزت دور الإعلام الحيادي إلى ما يشبه حزبا هاجسه التعبئة الجماهيرية. وإذا ما دققنا في هذه المسألة وقمنا بتحليل مضمون موادها الإعلامية والوقت الذي تخصصه ولمواضيع محددة ـ إحدى الفضائيات خصصت لشريط الزرقاوي نصف ساعة من مساحة النشرة الرئيسية ـ وكذلك النبرة التحريضية المعتمدة، فإنّ أول الاستنتاجات أنه إعلام يفتقد إلى روح المسؤولية ولا وعي لديه بحاجة المجتمعات الإسلامية اليوم إلى التجاوز والانفتاح والانخراط في المشهد العالمي والانكباب على معالجة الملفات المتراكمة أمامنا.

لذلك فإنّ جدلية الشد القوي والمموّل بسخاء إلى الوراء والجذب نحو المستقبل الإنساني العام، غير متوازنة وتبدو إلى حد الآن المعركة الصامتة لصالح قوى الشد إلى الوراء خصوصا بعد سلسلة النجاحات السياسية التي حققتها أحزاب سياسية إسلامية، في حين تلقى الأحزاب الليبرالية العزل والعجز عن اختراق الشعوب العربية.

زد على ذلك أن فشل النخب السياسية العربية في إشباع توقعات شعوبها وارتفاع عدد البطالة ومستويات الإحباط والحرمان، كل هذا جعل وسيجعل الشعوب العربية لقمة سائغة أمام البديل الذي يعشش في هذه الثغرات النفسية الاجتماعية والاقتصادية ليصطاد المحبطين الكثيرين في العالم العربي.

وهو ما يعني أن أوركسترا متكاملة من قوى الشد إلى الوراء قد تسربت وتغلغلت وفي تضخم، الشيء الذي يستدعي لا الانتباه والتفطن فقط، وإنّما ضبط استراتيجية إعلامية وثقافية قوية تمنع أرباب الهدم من تعطيل مشروع بناء الإنسان العربي كحل وحيد للوجود في كافة أنواع الخرائط.

Amel [email protected]