«الحوار اللبناني» على العكاز... وبسبع أرواح

TT

في لبنان يسير الحوار الوطني على الكاز. بمعنى أنه من غير المعروف إذا كان يتقدم بسرعة الأرانب أم بسرعة السلاحف. غير أن الواضح حتى هذه الساعة انه أنجز أمورًا جوهرية وتاريخية، ولكنه راوح في مكانه عند أمور أخرى وسيراوح أيضًا إلى حد يدفع البعض إلى الخوف من أن تؤدي المراوحة إلى إجهاض ما تمّ التوافق عليه.

بعد توقف استمر 25 يومًا تخللها تراشق بالتصريحات النارية بين بعض أفرقاء «الباب الأول» كما يسميهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يدير الحوار، عاد المتحاورون في لبنان إلى الاجتماع بعد ظهر يوم الجمعة الماضي.

كان هناك اقتناع عام بأن الحوار الوطني وصل إلى حائط مسدود، أو أن الجلسة ستكون الأخيرة. وفي هذا السياق كان العماد ميشال عون رئيس «التيار الوطني الحر» قد أعلن أنها ستكون «جلسة النطق بالحكم» وأنه لن يعود إلى المؤتمر المذكور مرة أخرى.

كان هذا واضحًا لأكثر من سبب. فمسألة «أزمة الحكم» التي تتمثل وفق التعريف الذي أجمع عليه المتحاورون في الجلسة الثالثة، باستمرار الرئيس أميل لحود في منصبه بعدما مُدّدت ولايته بالقوة لمدة ثلاث سنوات، ظلّت مستعصية على الحل. لا بل ان «حزب الله» و«حركة أمل» و«التيار العوني» انطلقوا في إعطاء تفسيرات جديدة لمفهوم هذه الأزمة، عندما قالوا إن «أزمة الحكم» لا تعني أزمة التمديد بل أزمة إدارة السلطة في البلاد، وذلك في سياق بدا وكأنه يعمّق الانقسام الحاصل مع الأكثرية النيابية ومحورها «تيار المستقبل». ومن الأسباب التي كانت توحي بفشل مؤتمر الحوار، ان هناك أموراً كان قد تمّ الاتفاق عليها بالإجماع مثل مسألة «تحديد» الحدود في مزارع شبعا، باعتبار أن سوريا تملك حساسية تجاه كلمة «ترسيم» كما قال أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، ومثل مسألة السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ولكنها عرفت مواقف وتصريحات في الأسبوعين الماضيين أوحت بأن هناك نوعًا من التراجع عن الاتفاق عليها.

وإذا أضفنا إلى كل هذا موقف سوريا التي تقفل أبوابها في وجه قرارات المؤتمر ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة، مشترطة «عودة الثقة» كي تقبل بالترسيم أو بالتحديد في مزارع شبعا، وبتبادل التمثيل الديبلوماسي، يصبح واضحاً تماماً أن المتحاورين يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى الحائط المسدود.

ولكن الاجتماع الأخير أسقط كل هذه الاستنتاجات ولو إلى حين. فبعد ساعات من النقاش المغلق أُعلن أن المتحاورين درسوا مسألة «أزمة الحكم» وتحديداً رئاسة أميل لحود وان هناك ترشيحات وأسماء وضعت في التداول ووصلت إلى أربعة أسماء (الجنرال ميشال عون، النائب بطرس حرب، الوزيرة نايلة معوض، الأستاذ نسيب لحود) وان المؤتمر سيعود إلى الانعقاد بعد أسبوعين. وهو ما دعا البعض إلى طرح السؤال:

هل أن الطاولة المستديرة بسبع أرواح، أي أنها لم تمت بعد، أم أن المتحاورين بسبع أرواح بمعنى أنهم عاكفون وبإصرار على تفسير الماء؟!

الأغلب أن الشعب اللبناني هو بسبع أرواح، لأنه قادر بعد كل ما عرفه من المآسي والمشاكل والأزمات على تحمّل الفصول المتناقضة والمحبطة وهبَّات الرياح الباردة والساخنة التي يطلقها مؤتمر الحوار الوطني.

وهكذا يجد اللبنانيون أنفسهم الآن أمام أسبوعين إضافيين من التبصير والاجتهاد في فك الطلاسم ومن عودة أركان الحوار إلى التراشق بالمواقف المتناقضة والتصريحات النارية، وهي بالتأكيد أمور لا تساعد اطلاقًا في خلق الأجواء الملائمة لأمر حيوي موازٍ للحوار، هو الاتفاق على بنود الخطة الاصلاحية التي تطرحها حكومة فؤاد السنيورة كأساس ضروري لإنجاح مؤتمر «بيروت 1»، الذي يراهن عليه الكثيرون كمدخل جديد لمعالجة أزمة المديونية الكبيرة.

في أي حال أثبت المؤتمر مرة جديدة أن الحوار وجاهة أي وجهاً لوجه، أفضل بكثير من الحوار عبر التصريحات ومن بعيد، وبمجرد الاتفاق على الاستمرار في مناقشة موضوع «أزمة الحكم» للانتقال في ما بعد إلى مسألة سلاح «حزب الله»، وبمجرد اعلان الرئيس بري أن ما سبق الاجماع عليه لا عودة عنه، فإن ذلك يعني أن في وسع الحوار أن يقدم الكثير وأن ينجز الكثير إذا استمر بعيدًا عن التدخلات الخارجية والحسابات الشخصية الضيقة. والآن وقد قرّر المتحاورون التركيز على «أزمة الحكم»، فإن من حق اللبنانيين أن يتساءلوا:

هل كان من الضروري أن يمر لبنان في سبع سنوات ونصف عجاف لكي نتحدث عن «أزمة الحكم»؟ وهل كان من الضروري أن يتم فرض التمديد بالإكراه لكي تشرئب هذه الأزمة؟ وهل كان من الضروري أن يتم اغتيال الرئيس رفيق الحريري والنائب باسل فليحان، وان تسيل الدماء أنهرا من أجساد الشهداء والأحياء الشهداء منهم لكي نتحدث عن «أزمة حكم»؟ ثم هل كان من الضروري أن يتحول قصر بعبدا شرنقة مقفلة لا يدخلها العالم ولا تعترف بها الدول والمؤسسات الدولية لكي نكتشف وجود «أزمة حكم»؟

ولكن ما الفائدة من كل الاكتشافات إذا كان هناك من لا يرى وجود «أزمة حكم»، أو بالأحرى يحاول لحسابات إقليمية أو رهانات رئاسية شخصية أن يعطي هذه الأزمة ترجمة مشوّهة بسحبها فوق رأس السلطة التنفيذية.

لا داعي طبعًا إلى البحث عن أجوبة، لكن أميل لحود بدا في الأيام الأخيرة وكأنه استولى على الشعار الذي طالما أُلصق بالجنرال عون أي: «أنا أو لا أحد»، وراح يتصرف على أساس أنه مقتنع بواقع أن: «لحود أو لا أحد».

وعلى هذا الأساس فإنه يستأسد في هذه الأيام، ولكأنه يدخل لتوه مظفراً إلى قصر بعبدا، حيث لن يطول الوقت قبل أن يعود إلى تقديم الكوميديا التي تحمل عنوان «دولة القانون والمؤسسات» والتي يلعب «خطاب القسم» دور السوبرانو فيها. إلاّ إذا حصلت المفاجأة السارة فعلاً واتفق المتحاورون على حل يريح الرئيس لحود ويريح اللبنانيين طبعًا.