السحر والساحر

TT

هذا الأسبوع هو أسبوع مهرجان الفيلم الفلسطيني في لندن. في مركز الباربيكان عرضت باقة من الافلام اقبل عليها الجمهور اللندني بصورة منقطعة النظير، ربما لأن الفن هو لغة التواصل التي تذوب كل الحدود الانسانية والثقافية بين الناس.

شاهدت فيلم «مذبحة» (ماساكر)، الذي اخرجته الالمانية مونيكا بورجمان وزميلان لها، هما لوكمان سلم وهيرمان ثايسن، مع جمهور شكل الانجليز والاوروبيون الغالبية العظمى فيه. وهو فيلم وثائقي يتناول الاحداث المأساوية التي وقعت اثناء الحرب الاهلية اللبنانية في عام 1982، والتي مهدت لوقوع مذبحة صبرا وشاتيلا، على مدى ليلتين وثلاثة ايام.

ورغم ان المذبحة هزت ضمير العالم حين وقعت، الا ان الذكرى تراجعت مع تواتر الاحداث الدامية والمذابح الاخرى في رواندا وفي العراق واماكن اخرى في العالم حتى كادت تنسى.

«مذبحة» فيلم وثائقي يطرح تساؤلات مهمة حول السلوكيات الوحشية التي يمكن ان تصدر عن البشر، وكيف يتعايش هؤلاء مع ذكرى الفعل. ومن هنا يمكن اعتبار الفيلم دراسة تختلط فيها السياسة بعلم النفس، لكشف الستار عن دوافع ستة افراد شاركوا بهمة في القتل والاغتصاب والتدمير، وافلتوا من العقاب، بعد صدور قرار العفو العام في عام 1990. وتوارت الوجوه في زحام لبنان جديد، ولعبت التطورات الاقتصادية والاجتماعية دورها في تراجع ذكرى صبرا وشاتيلا.

الحقيقة هي انه فيلم يتطلب من المشاهد صلابة وقوة لا ادعي امتلاكها، ولكن مثله لا يرى النور من اجل امتاع المشاهد، وانما لتحديه وتنويره وتذكيره وتحذيره من مغبة الغفلة.

فهو فيلم لا يخرج عن نطاق اعترافات ستة أشخاص امام كاميرا الفيلم، بلا تدخل يذكر من المخرجة، التي آثرت ان تسجل الصورة والصوت ولغة الجسد فحسب. وجوه المعترفين معتمة ومكان التصوير كثير الشبه بزنازين السجون العارية، لأن المعترفين اشترطوا الحرص على اخفاء هوية كل منهم خوفا من الانتقام.

والانتقال من شخصية الى اخرى امتداد موثق لمصداقية دالة على بشاعة الفعل وحضوره في ذاكرة الفاعل. ورغم مضي قرابة 24 عاما على ما حدث، وانصهار تلك الشخصيات في المجتمع وانتقال كل منهم من مرحلة المراهقة والشباب الى منتصف العمر، لا توجد بالفيلم اشارة واحدة تدل على خجل أو ندم. الاعترافات ترعب المتلقي، لأن الوجه المعتم الذي صورته كاميرا السينما قد يكون وجه جار او زميل عمل او والد احد تلاميذ المدرسة التي يدرس بها اولاد الجيران.

ما هي رسالة الفيلم؟ انها تذكير بأن ضحايا العنف كثر. الفاعل ضحية، كما المفعول به. فرغم احساسي بالنفور الشديد المختلط بالخوف الفطري من الشر، وانا انصت لاعترافات خالية من الاحساس بالمسؤولية والندم، شعرت بأن جرما ارتكب بحق هؤلاء. خلف الرغبة في طمس الهوية والاندماج، افراد مشوهون نفسيا واخلاقيا وانسانيا، ينتشرون في مجتمع آثر ان ينسى، مجتمع ابتلع مسكنات الألم لكي يعيش ويستمر. ولكنك تبتلع حبة دواء لتسكين الألم فيسكن الألم فتتصور انك تخلصت نهائيا من المرض، ولكن هيهات.. حين يتحول انسان سوي الى ماكينة قتل مجردة من الاحساس يدخل فيروس القتل الى جسم المجتمع كله وينتشر وينتظر فرصة للاستشراء.بعد انتهاء حرب فيتنام اكتشف الامريكيون، ان الجندي المدرب على القتل، بأمر القائد، روبوت مبرمج، وانه لا يوجد برنامج يعيد الروبوت الى انسان سوي بعد انتهاء الحرب. فقد تعرضت اسر الجنود العائدين من فيتنام لبطش النفوس التي جبلت على سفك الدماء والتنكيل بالخصم، وانتهى الامر بكثيرين منهم الى الجنون او الانتحار.