ظاهرة الميليشيا تدمر التعايش الاجتماعي

TT

الأحزاب شر لا بد منه في اللعبة الديمقراطية. فهي مثيرة للجدل. مبتذلة للحياة السياسية. ملهبة للشارع. ملهية للرأي العام، غير أنها في النهاية قادرة على بلورة الآراء والمواقف المختلفة، ومعبرة عن مصالح الفئات الاجتماعية. وبدونها لا يستطيع النظام الحاكم أن يدرك ويتبين تماما خريطة الاتجاهات الشعبية والقضايا الأكثر إلحاحا وحاجة للعلاج.

وهكذا، فالأحزاب ببساطة هي ميليشيات سياسية. فرق منضبطة أو فالتة تتفاخر بحرية التعبير السلمي في الحوار والإعلام، وربما في التظاهر والاعتصام والاضراب.

الدولة المعاصرة شهدت عسكرة الحياة الحزبية. الآيديولوجيا الفاشية التي ازدهرت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية (1919 ـ 1939) طورت أذرعا ميليشيوية لأحزابها في المانيا وايطاليا واسبانيا. ثم اعتمدت على هذه الأذرع في تقويض الحكم واغتصاب السلطة، منتهزة فوضى الديمقراطية وضعفها، واللاعدالة التي عوملت بها المانيا بالذات في التسوية السياسية للحرب الأولى.

العالم العربي أصيب أيضا بالانفلونزا الفاشية. كنت قد أشرت هنا سابقا الى ثلاثة من هذه الأحزاب نشأت في الفترة ذاتها: حزب مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين. الحزب السوري القومي بزعامة أنطون سعادة. حزب الكتائب اللبنانية بزعامة بيار الجميل. وكادت الأحزاب النضالية الديمقراطية في مصر (حزب الوفد) وفي سورية (الكتلة الوطنية) تصاب بالعدوى لولا هزيمة الفاشية بهزيمة المانيا وايطاليا في الحرب الثانية.

الأحزاب والحركات الدينية حاكت الأحزاب الفاشية في تطوير أذرع ميليشيوية علنية أو سرية لها، واستخدمتها في صراعاتها وتظاهراتها الدينية، حتى قبل أن يضفي سيد قطب «الشرعية القداسية» على تحويل الأحزاب والحركات الدينية الى ميليشيات تقاتل المجتمع والنظام. كان لـ «إخوان» حسن البنا «الجهاز السري» منذ أوائل أربعينات القرن الماضي. وكان للمرجعية التقليدية الدينية في سورية شبه تنظيم ميليشيوي سري في الفترة ذاتها. بل اعتمدت الحركات الدينية الإصلاحية التي نشأت منذ القرن الثأمن عشر والتاسع عشر، كالسنوسية والمهدية، على تجييش أنصارها، سواء في مقارعة الحكم التركي أو الاستعمار الاوروبي.

ظاهرة عسكرة الحزب الديني أخذت وتأخذ منذ ثمانينات القرن الماضي بعدا تصعيديا كبيرا، كان له نتائج سلبية على الحياة السياسية العربية. «الفضل» للولايات المتحدة في هذه العسكرة. كانت اميركا هي المبادرة لتدريب واستخدام الميليشيات الدينية في مجاهدة «الكفر» السوفياتي في افغانستان، ثم في سحبها الشاه من حلمه بايران دولة عظمى لتسليمها الى ميليشيات الخميني، ذلك الحلم الامبراطوري الذي عاد ليراود اليوم رئيساً في شكل وحجم محمود احمدي نجاد.

في الجزائر، بدلا من اعتماد الحزب الديني الكفاح السياسي احتجاجا على سلبه نصره الانتخابي، فقد لجأت «جبهة الإنقاذ» فورا الى ميليشياتها في حرب طويلة خاسرة كلفت الجزائر مائة ألف قتيل. توارت «جبهة الانقاذ» ليحل محلها الحزب الاخواني (حركة مجتمع السلم) التي حالفت النظام، وباتت من القوة بحيث يفكر مرشدها ابو جرة سلطاني باحتلال منصب الرئاسة.

يبقى العراق المسرح الدموي الأكبر والأكثر بشاعة للميليشيات الدينية الظاهرة والسرية. مع سقوط دولة ونظام صدام، انهار أيضاً النظام الاجتماعي. «إصلاحية» بوش للنظام العربي جاءت في العراق بأغرب ديمقراطية في التاريخ! ديمقراطية تحكمها وتتنازع سلطاتها أحزاب ميليشيوية دينية وعرقية، وتواجهها «مقاومات» لا تتورع عن ارتكاب مجازر مدنية، بحجة مقاومة الاحتلال الاجنبي!

ما هو المدى الكارثي لعسكرة الحياة الحزبية والدينية والسياسية؟ وما هو السبب في ظاهرة الميليشيا التي تزدهر كثقافة شعبية رائجة في المجتمع العربي والإسلامي؟

فلاسفة عصر التنوير يفترضون عقدا اجتماعيا بين الدولة والمجتمع، لتوفير الأمن والعدل والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، في مقابل خضوع المواطن للدولة. عندما تتحول السلطة الى تسلط يحكمه الظلم والفساد والمحاباة، تضعف ثقة المجتمع بالدولة ونظامها السياسي.

مع ضعف الدولة واهتراء نظامها السياسي، يختل الأمن أساس التعاقد بينها وبين المجتمع. تصبح الدولة رويدا رويدا عاجزة عن توفير الأمن، كأساس للسلام المدني والاجتماعي مهما تسلحت وأنشأت من أجهزة أمنية.

مراكز القوى في الدولة أيضاً تلجأ إلى إنشاء ميليشيات مسلحة. في سورية، شكل رفعت الاسد للدولة رديفا ميليشيويا (سرايا الدفاع) كاد ينتزع السلطة من شقيقه رئيس الدولة والنظام. ضعف نظام عرفات في أرض محتلة وسلطة وطنية محاصرة، ألجأته إلى إنشاء إحدى عشرة ميليشيا نظامية على شكل أجهزة شرطة ومخابرات متعددة. في انهيار السلطة، تحول أربعون ألف شرطي ومخابراتي الى شلل وميليشيات مسلحة، تهدد الأمن الذي يفترض أن تحميه.

الخزينة الخاوية لم تمنع محمود عباس وحماس من إنشاء أجهزة وميليشيات اضافية، بالحجة ذاتها، حماية الأمن.

عباس يملك اليوم ميليشيا رئاسية تمولها وتدربها أميركا ودول أخرى.

لم تكد حماس تشكل حكومتها حتى شرعت في إنشاء ميليشيا رسمية موازية لميليشياها!. في تردي السلطة والأمن، تحولت التنظيمات النضالية والجهادية أيضا الى ميليشيات حقيقية منقسمة على نفسها ومتمردة على قادتها، ومتناحرة في ما بينها.

ثقافة الميليشيا تُواري كبرياء الدولة، وتزيف الشعور الوطني، وتغتال التعايش الاجتماعي، في تعددية سكانية مختلفة المذاهب والطوائف والاعراق. تتردى الثقة التاريخية القلقة التي نشأت بين هذه الفئات. يتلاشى أدب المجاملة والجوار عندما توتر الميليشيات الفئوية الأجواء بالمظاهر المسلحة والشعارات الاستفزازية.

مع تراجع التعايش الاجتماعي، ينهار السلام المدني. في عجز الدولة وغيابها، تلجأ الفئة الأخرى الى إنشاء ميليشيا مسلحة للغرض ذاته. يرتفع حاجز نفسي تحت شعار: «نحن وهم» هذا ما حدث في لبنان والبوسنة. وهذا ما يحدث اليوم في العراق، وربما غدا في أي بلد عربي يعاني من ظواهر المرض العراقي.

كيف يستعيد نوري كمال المالكي أمن الدولة من أمن الميليشيات؟! حصل المرشح لرئاسة الحكومة على بركة السيستاني الذي كان من الجرأة، بحيث تحدى ضمنا ايران راعية وممولة ميليشيات الشيعة. لكن عبد العزيز الحكيم (منظمة بدر) ومقتدى الصدر (جيش المهدي) يقولان إن أمن الميليشيات من أمن الدولة!

التاريخ تجربة ثم عبرة. الدولة الفاشية دولة دونكيشوتية تخترع لنفسها عدوا خارجيا تحاربه، ثم تنهزم امامه. هكذا انتهى هتلر وموسوليني. حول صدام البعث الى حزب فاشي. جسد صدام أمن الدولة بأمنه الشخصي، وانتهى نظامه الفروسي بالهزيمة العسكرية. الحزب الفاشي والميليشيوي أيضا جر الكوارث على لبنان وسورية وعلى نفسه. لعل الأحزاب الميليشيوية العراقية تتأمل التاريخ الفاشي القريب والبعيد، لتعتبر به ولتوفر على ذاتها خوض تجربته.