انتبهوا... الحشاشون آتون

TT

كنت أرى وأسمع الكاتب والسياسي العراقي حسن العلوي، البارحة، وهو يردد صرخة «سوار بن الضرب» احد الخوارج القدماء، هازئا من سلطة بني امية وتهديدهم :

ايرجو بنو مروان سمعي وطاعتي / وقومي تميم والفلاة ورائيا !

يردده العلوي، المعارض المخضرم لصدام حسين، وهو يفسر استمرارية نقده وتمرده على اهل الحكم في العراق. قائلا إنه لن يكف عن ابداء ملاحظاته النقدية عن العهد الجديد، وليس لديهم قدرة على منعه ففلاة الارض، وراءه ، وهو ليس محبوسا في اقفاص الخارطة ... هو حليف الحلم العراقي، لا الاحزاب... او هكذا فهمته.

حسن العلوي، وهو المثقف العارف بشخصية العراق التاريخية والاجتماعية، وهو المتصالح مع انتمائه الوطني، ومجموعته الاجتماعية / الثقافية الاصغر (طائفته الشيعية)، كان يتحدث في حواره المتلفز مع «المستقلة» عن كتابه الذي سيصدره عن الخليفة عمر بن الخطاب، مسلطا الضوء فيه على طبيعة الجهود السياسية المشتركة بين الامام علي والخليفة عمر في بناء الدولة، بلغة ايجابية عن عمر، مبديا غضبه الشديد من الثقافة الشيعية «الدخيلة» على الشيعة، والتي تقوم على الادب «المجلسي» نسبة لباقر المجلسي، أحد رموز التشيع «الصفوي» القديم الذي اشاع ثقافة الشتم والسب والتكفير للسنة ورموز السنة أمثال عمر بن الخطاب .

العلوي تحدث بحدة عن من يشتمون عمر، وسخر من كتابات لسنة تحولوا الى التشيع، جاعلين شهادة تشيعهم هي شتم عمر، قائلا :«هل الشيعة بحاجة الى شتامين ؟! هذا تسخيف للثقافة الشيعية».

الحقيقة ان حسن العلوي كان يوجه نقده للفريقين: لمن يصر من السنة على حبس الثقافة الشيعية، و«المعنى» الشيعي ، ببضع شتائم صفوية، وللفريق الشيعي الذي يسطح تاريخه وثقافته بالاصرار على هذه الهجائيات الفارغة.

موضوعنا هنا ليس عن الطائفية، ولا عن الصراع الخالد بين الشيعة والسنة، ولا عن «نقائض» الطائفتين ضد بعضهما، لأن هذا الصراع خلق في لحظة حساسة من التاريخ، لحظة كل شيء وجد فيها، او مر بها، اصبح ثابتا خالدا، حتى ولو كان صراعا سياسيا او خلافا عائليا، او شتما لأحد بسبب ملاحقة سياسية، من اجل ذلك فكل من زُكي في هذه اللحظة التاريخية، اتحدث عن حقبة الفتنة الكبرى الى بواكير العهد العباسي، كل من زُكي اصبح فوق النقد، وكل من ذُم اصبح شيطانا على مر القرون، وحبست مياه القراءة التاريخية عن الوصول الى هذه الضفاف المحصنة.

إذن، فلا الشيعة سيكفون عن القراءة اللا تاريخية لاحداث الفتنة الكبرى، ولا السنة كذلك، لأن المسالة انتقلت من ميدان التاريخ الرحب والمتحرك و«الطبيعي» الى مصاف العقائد والمقولات المطلقة. المسألة تحولت الى عقيدة. والعقيدة خلقت طبقة تحميها، والطبقة صارت مصدرا لشرعية الجميع، وبالتالي «سلطة». هكذا كان الامر، وهكذا اصبح واستمر، وهكذا سيظل ويصير، حتى نكاشف انفسنا ذات يوم، ونتخفف من اثقال التاريخ وصراعاته المقدسة، بلا وجه يجعلها مقدسة، لأنها صراعات «في» التاريخ ومحكومة بالتاريخ ،لا حاكمة عليه.

مرة أخرى، ليس هذا موضوعنا، موضوعنا هو موقف المثقف العربي إزاء من يريد تحويله الى مجرد «شارح» ومردد لمقولات منجزة مسبقا، لم يساهم هو في صناعتها، ولا في تحليلها حتى، هو مدافع عنها، ومبين لمزاياها، وتقف حدود مهمته عند هذه التخوم فقط. ومن يريده ان يكون كذلك، بالدرجة الاولى، وأعني بالدرجة الاولى، هو «الرقيب الجماعي» او «الجمعي»، الذي يفرض اعتى واقسى انواع الرقابات، وأين منها رقابة السياسي، على ثقلها!

في هذا الصدد مرّت بي للمثقف العراقي سيار الجميل عبارة كاشفة، تقول ان المثقف العراقي كان يخاف من نظام صدام، أما الآن فهو يخاف من «نظامات» كثيرة في العراق، ولا يجرؤ على الحديث والقول والتحليل ... وكما قيل :

ولو كان سهما واحدا لاتقيته / ولكنه سهم وثان وثالث !

حسن العلوي، إذا ما عدنا إليه، حينما ألحّ عليه المذيع بالسؤال عن كتابه عن عمر بن الخطاب وهو العراقي الشيعي، ولماذا تأخر الكتاب، قال: «سأنشر الكتاب مهما كلف الامر، ولو قتلت، فلم يبق في العمر كثيرا».

ونحن نقول : طول العمر لك. لكن حديثك هذا جرس ضمن اجراس كثيرة قرعت لنا لتنبهنا الى أننا ازاء محنة حقيقية تعترض طريق الكاتب والمثقف، ولم يعد عدوه او مصدر الضرر له قبضة الدولة الغليظة، بل ذراع الارهاب الطويلة.

المثقف متورط بهويته ! فهو دائما يفكك العلاقات بين الاشياء ويحاول فهم كيف يفكر المجتمع، وما هي محركاته ومحدداته وشبكة مفاهيمه ومقولاته... هذا هو ما يعمله المثقف الحقيقي عادة.

هو بطبيعته ينزع للإبداع ويحتاج الى الحرية حتى يتمكن من طرح الاسئلة وتفكيك الاوهام، لذا فهو عدو الصيغ الثابتة، خصوصا اذا تكاثرت واصبحت هي الاصل، حتى ولو كانت مجرد رغبات سياسية او «اذواق» اجتماعية، لاعقيدة دينية صافية ومجردة.

وهكذا، يتعاضد على المثقف نظامان مغلقان، يطلبان منه الترديد والتبشير، ويريدانه محشورا في عنق البوق الدعائي، حتى يخرج صوته منغما بنغمات الاوركسترا العامة.

نعم يوجد مثقفون جماعة، ومعبرون عن القائم الناجز، وهم مثقفون «وظيفيون»، وربما تدعو الحاجة لهم، هذا أمر عادي، ولكن ليس هؤلاء من ينقلون المراحل ويجلبون الشمس الى الحقول ... هؤلاء هم حماة الحقل لا زارعوه!

المثقف الذي يريد ان يقول شيئا، محاصرٌ، والمفارقة أنه محاصر من أناس خارج الدولة ومدارها! محاصر من امثال القاعدة او مقتدى الصدر في العراق ...

في هذه الاجواء، وبمثل هذه الطروف والاخطار التي تحيط بالمثقف، يصبح خطاب اسامة بن لادن الاخير، والذي لم يبث كاملا في وسائل الاعلام، خطابا دالا بشكل مثالي على ما نعنيه هنا من «محنة المثقف».

زعيم القاعدة لأول مرة يذكر اسماء كتاب ومفكرين وسياسيين، اغلبهم سعوديون، ويحرض أتباعه على اغتيالهم، جريا ـ كما يقول ـ على سنة الاغتيالات في الاسلام. ( هنا أذكر بكتاب: الاغتيال السياسي في الاسلام. للمفكر الراحل هادي العلوي، شقيق حسن العلوي!).

ابن لادن يتسخدم كل شيء من اجل إبقاء «حالته» هي سيدة الحالات، من مشكلة دارفور المحلية، الى حوادث التاريخ الاسلامي المختلفة.

الآن اصبح المثقف في مرمى النار القاعدية، ماذا نعمل إذن؟! وهل نرى في ذلك جانبا ايجابيا، وهو أن الاصوات المثقفة النقدية الداعية لمكاشفة الذات الجماعية، قد بدأت تؤثر؟! بدلالة ان زعيم القاعدة خصص لها شطرا كبيرا من خطابه التعبوي، معلنا الحرب الصراح عليها!

البعض يقول ذلك، لكنني اخشى ان يكون ذلك نوعا من تعزية النفس وتهوين المشكلة.

ان محنة المثقف العربي والشرق اوسطي حقيقية ومحزنة، وليس أدل على ذلك من وضع الحريات الصحافية في منطقة الشرق الاوسط والتي يذكر تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» لعام 2004 أنه سيئ جدا للجميع، وعلى سبيل المثال فإن ايران، حسب التقرير، تعتبر اكبر سجن للصحافيين في المنطقة. وايران سجن ليس للصحافين فقط بل وللمفكرين والمثقفين، فقد حكم على الكاتب أكبر غانجي بالسجن 6 سنوات بعد ان كتب مقالا عام 2001 يتهم فيه العديد من المسؤولين الايرانيين بالوقوف وراء سلسلة اغتيالات استهدفت مثقفين وكتابا ايرانيين.

هذا عن ضرر الدولة في الشرق الاوسط، ولكن الانكى من ضرر الدولة، الآن، هو ضرر الرقابة والسلطات الاجتماعية الجماعية، ذات الشعار الديني، ففي العراق هناك «مجزرة» تتم بحق المثقفين والاكاديميين والكتاب، مجزرة بالمعنى الحقيقي لا المجازي، او هي «مقاتل الاكاديميين»، على غرار «مقاتل الطالبيين»، حسب تعبير الكاتب العراقي رشيد الخيون. وفي الجزائر سقط الكتاب والصحافيون على يد الجماعات المسلحة، وفي مصر قتل فرج فودة وطعن نجيب محفوظ وهدد سيد القمني على يد اصوليين، وها نحن نرى في السعودية حملات التحريض المنظم ضد صحافيين ومثقفين، وكان ختامها دعوة اسامة بن لادن جنوده في السعودية لقتلهم، وكتمان ذلك!

يا لتعاسة الحال، وأخشى أن من كان يشتكي، يوما ما، من مضايقة الدولة له في الكتابة او التعبير عن رأيه، اخشى ان يترحم على رقابة الدولة المنظمة» اذا ما خفقت اجنحة الخفافيش الارهابية فوق رؤسهم ناشرة كساء الظلام الطويل ... وتصبح الحكمة المخدرة حينها :