التماثيل... التماثيل

TT

«المتحرشون» يعودون إلى زار تقطيع الهدوم والبكاء والنواح على «التماثيل»، التي يدعون أن مفتي الديار المصرية قال بتحريمها من الباب للطاق، ومن دون أي مناسبة، وهذا غير صحيح، فالمناسبة، كما ذكرها فضيلته هي: سؤال من مواطن يتعامل في تجارته مع هذه الأشياء، والمواطن سمع أن ما يفعله من المحرمات، والرجل يريد التأكد، لأنه لا يحب أن يحمل ذنوبا، فماذا يفعل؟ الطبيعي أن يسأل عالم دين من أهل الذكر. طيب: هناك موقع لدار الإفتاء على شبكة المواقع الإلكترونية، أرسل المواطن سؤاله، ورد عليه المفتي الدكتور علي جمعة بما يمليه عليه علمه وضميره، وبين كل الآراء الفقهية الخاصة بهذا الموضوع: هذا قال، وهذا قال، وهذا قال... الخ.

وهنا وجد «المتحرشون» فرصتهم ليتركوا كل مصائبنا الحقيقية ويتحلقوا حول «المفتي» يرشقونه بكل المغالطات الجدلية والسفسطة الحوارية، يتلذذون بالتباجح على «المفتي»، «يفتون» له و«يعلمونه» بلهجة قبيحة لا يتحاور بها إلا من قل زاده في العلم والأدب، بل ويتهمونه «هو» بأنه الذي يثير قضية في غير وقتها مهملا القضايا الأكثر إلحاحا، ويتساءلون: لماذا يخرج علينا الآن بهذه الفتوى، وما الداعي لها؟ كأنه كان من المنتظر منه أن يهمل سؤال مواطن يريد أن يعرف أحكام دينه، أو كأن المطلوب منه أن يترك ركائز العلم الفقهي ويقول: قال الشيخ محمد عبده! وما إعجابهم بقول الشيخ محمد عبده سوى أنه قال ما تهواه أنفسهم! ولقد هاجت هذه الزوبعة منذ عامين حين اعترض سكان مدينة زايد في منطقة 6 أكتوبر على تمثال لنحات أميركي تم وضعه عند مدخل مدينتهم، وقام رئيس الحي بإزالة التمثال، تلبية لرغبة سكان المدينة: إجراء ديمقراطي مائة بالمائة، فإذا بدائرة المتحرشين تطلق صرخات الاستدعاء لحلقة النار وشواء رئيس الحي وتمزيقه في وليمة نهش جماعية، بدعوى الذود عن قيم «التنوير»! وطبعا، في هذا الحفل البدائي، تمت جرجرة المسكين الأستاذ الإمام محمد عبده يستشهدون بـ«فتواه» في «التماثيل»، كأنهم قد أطاعوه في كل شيء وتقلدوه بالسمع والطاعة في ترك كل «المحرمات» التي أفتى بتحريمها! ولا أدري لماذا تكون فتوى الشيخ محمد عبده حجة تدمغ فتوى الدكتور علي جمعة ولا تكون فتوى الدكتور علي جمعة حجة تدحض فتوى الشيخ محمد عبده؟ ومن الفيصل في ذلك غير العلماء المتخصصين؟ سبحان الله!

ولماذا لا يهب هؤلاء المتباكون على «التماثيل» ـ وهم في حقيقتهم لا يعرفون في فن النحت، وتاريخ الفنون وعلاقتها بالعقائد، الفرق بين الألف وكوز الذرة ـ لماذا لا يتشاركون مع بقية الشعب المصري في حملة لإقامة «مراحيض عمومية»، هذا المطلب الملح لمدينة القاهرة، التي يجأر أهلها، قبل زوارها، بالشكوى من اضطرار الناس إلى التغوط والتبول على أرصفتها وجدرانها وزواياها، على عينك يا تاجر، ويا فنان، ويا رائح، ويا غادي، والمضطر، لحاجته الضرورية، لا يأبه لتلوث البيئة ولا بأي كلام كبير في هذا المضمار، ترى ماذا قال الأستاذ الإمام محمد عبده في تحريم قضاء الحاجة علنا في الطريق العام؟

لا شك أنه استنكر وحرم ودعا بدعوة رسولنا الكريم و«إماطة الأذى عن الطريق، واعطاء الطريق حقها».

إن حقيقة استهانة الشعب المصري بالتماثيل ماثلة في ذهني بمتابعتي لظاهرة غرام الناس بصفعها على الوجه وعلى القفا كلما وجدوا الفرصة لفعل ذلك، منها «التماثيل» المنتشرة في الحديقة اليابانية بحلوان، والناس يفعلون ذلك من قبل «طالبان» وتحريضها على التماثيل، فليس في الأمر طالبان كما يدعي البعض المغرم باقحام قائمة الإدعاء الأميركية لاتهام كل تنفس إسلامي بـ«الإرهاب» و«التشدد» و«الظلامية».. الخ، مع أن تحريض الأجهزة الأمنية على المختلفين فكريا لا يكون من شيم كرام المثقفين، ناهيك من الجالسين في مقاعد المسؤولية الثقافية، كما أنه لم تكن هناك سطوة دعائية أو إعلامية تبغض الناس في «التماثيل»، على العكس، كانت هناك طبعا «فتوى» محمد عبده، وكان الناس قد عاشوا أمدا طويلا في ظل تماثيل الميادين، من أول «لاظوغلي» حتى «نهضة مصر»، مرورا بتماثيل سعد زغلول ومصطفى كامل، ولا ننسى «سليمان باشا الفرنساوي» الذي حل مكانه «طلعت حرب»، وكان الناس قد شبعوا محاضرات «توعية» تعلمهم أن المثال «محمود مختار» سيدنا وتاج راسنا منذ عاد من دراسة في إيطاليا مضيعا موهبته العظيمة في استنساخ فن النحت الإيطالي. لكن «فطرة» الإحساس الثقافي عند شعبنا ظلت متمسكة بمنطق عقيدتها، الكاره للتشخيص والتجسيد والمنحازة للتجريد، والذي لخص حضارتنا الإسلامية في «المسجد» و«المدرسة» و«المستشفى» و«الحمام» و«السبيل» الذي يروي العطشان. كل خليفة وكل سلطان وكل والي أراد أن يخلد اسمه في مصر، لم يأمر بإقامة «تمثال» يخلد ذكراه، لكنه أمر ببناء: «مسجد ومدرسة ومستشفى وحمام وسبيل»، وهي أمور احتفالية لها جمالها وفنونها المعمارية وعموم خيرها على البشر، وهي التي نرى آثارها الآن فيما أسموه «القاهرة المملوكية» و«القاهرة الفاطمية» ومن قبلهما «الفسطاط»، مصر عتيقة، التي يتآلف فيها جامع عمرو بن العاص، إلى جوار الكنيسة المعلقة، إلى جوار معبد يهودي، آثارا للجمال والتراحم وعبادة الله جل جلاله، ومع ذلك يأتون لنا بنحت سمج، لنحات أميركي، يتكون من ثلاثة أهرامات يقول إنه رمز لـ«الأديان الثلاثة»، هناك طبعا ثلاث رسالات لدين واحد وهذه عقيدتنا ـ ويقترح واحد من الحمقى وضع هذا «النحت» في «الفسطاط» جوار المسجد والكنيسة والمعبد، ونسأل، لماذا يا حضرة؟ فيقال: لاثبات «التسامح»، كأن دور العبادة المصانة منذ قرون والتي تتنفس التسامح والجمال والعراقة لا تكفي، فنحتاج إلى ثلاثة أهرامات ـ أي مقابر ـ فلا ندري أهي ترمز «للتسامح» أم تعلن شعائر موته ودفنه في مقابر الأهرامات المنحوتة بغباء وجهل وقبح؟

وما هي الحجة ـ وراء ذلك ـ لنسمح لفنان اميركي أن «يشلفط» لنا مياديننا وساحاتنا، ألا تكفي زيارة رامسفيلد وكندوليزا لبغداد للتباحث مع السيد «المالكي» في تشكيل وزارته؟

الملخص: لقد صفع الناس في بلادنا «التماثيل» وحمدوا «المساجد»، وسوف يدعون بالخير لمن يقيم في «القاهرة» ـ على الأقل ـ «لمراحيض العمومية»!