بدلا من تضييع الوقت في مغازلة حكومة أولمرت

TT

لك أن تتصور حجم الإحباط والخزي الذي انتاب واحدا مثلي، تساءل في الأسبوع الماضي ـ في هذا المكان ـ عمن يملأ فراغ القضية الفلسطينية. بعدما تخلى عن ملفها «الأبعدون» الذين استأثروا به طيلة السنوات التي خلت، ودعا أو تمنى أن يستثمر العرب الفرصة ويستعيدوا ذلك الملف، ثم إذا به يفاجأ هذا الأسبوع بتشاور عربي يخاطب أولمرت وليس الفلسطينيين.

التصريحات الرسمية التي تناقلتها الصحف ووكالات الأنباء عن «التشاور» المذكور الذي تم في العقبة، أسفر عن اتفاق حول أهمية الاتصال واللقاء مع رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود أولمرت، لحثه على التخلي عن الخطوات الانفرادية، والعودة إلى طاولة المفاوضات، على قاعدة القرارات الدولية وخطة خريطة الطريق والمبادرة العربية.

هل يمكن أن تحقق الاتصالات العربية المفترضة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية شيئا من هذه الأهداف؟

إن أي قارئ للصحف اليومية لا يحتاج إلى تفكير طويل لكي يجيب عن السؤال بالنفي بسبب جوهري، هو أن الخطاب السياسي الإسرائيلي والإجراءات العملية المطبقة على الأرض تجاوزت ذلك كله. فإسرائيل لها تاريخ في رفض القرارات الدولية والازدراء بها، طالما أنها لم تستجب لشيء من مطالبها، وخريطة الطريق التي سجل عليها شارون 14 تحفظا أفرغتها من مضمونها، ماتت وشبعت موتا، والمبادرة العربية رفضتها إسرائيل بعد أيام قليلة من إعلانها في بيروت، ليس ذلك فحسب، وإنما لم تعد إسرائيل مستعدة للتفاهم مع أحد من الزعماء العرب الذين يطرقون أبوابها، مهما حسنت نواياهم، بعدما اطمأنت إلى ترتيب أوضاعها مع الإدارة الأميركية، واكتفت بذلك، بل أن خطة الانسحاب من جانب واحد، وترسيم الحدود النهائية لإسرائيل بعد اغتصاب اكثر من 50% من أراضي الضفة وغور الأردن، هذه الخطة أعربت واشنطن عن تأييدها لها، ولم تسجل أي تحفظ عليها، وقبل هذا كله وبعده، فإن برنامج ايهود أولمرت الذي انتخب على أساسه يتعارض بالكلية مع تلك المطالب التي تحدثت عنها التصريحات العربية الأخيرة، حتى أن أية استجابة لها من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي تفقده شرعيته، من حيث انها تعني تنازله عن البرنامج الانتخابي الذي على أساسه صوت الناس لصالح حزب «كاديما» الذي يقوده.

وأي متابع للشأن الإسرائيلي يدرك جيدا أنه خلال السنتين المقبلتين على الأقل، أي حتى نهاية الولاية الثانية للرئيس جورج بوش، وما لم يحدث تغيير جوهري في خرائط المنطقة العربية، فان إسرائيل لن تعطي «أذنا» لا للعرب ولا للفلسطينيين، ولن تلق لهم بالا إلا في حالة واحدة، هي أن تحصل على المزيد من المكاسب التي تشبع نهمها للتوسع والهيمنة، ذلك أن الإدارة الأميركية الحالية تمثل حليفا وسندا لا حدود لولائه للمشروع الصهيوني، الأمر الذي يفتح شهية إسرائيل لتحقيق أكبر قدر من الإنجازات على الأرض الفلسطينية، بما في ذلك الإغلاق النهائي لملف القضية، ولعلك لاحظت أن اولمرت بعدما أعلن عن الانتهاء من ترسيم حدود إسرائيل في سنة 2010، فانه عاد وقال إنه سيختصر مدة الترسيم بحيث يتم في حدود عام 2008 مع نهاية ولاية الرئيس بوش.

ورغم اطمئنان إسرائيل إلى رسوخ نفوذها في أوساط النخبة السياسية في الولايات المتحدة، إلا أن ثمة إرهاصات مشهودة في الولايات المتحدة عبرت عن الضيق بذلك النفوذ، وعن الاحتجاج على تقديم أمن إسرائيل على أمن الولايات المتحدة ذاتها، والدوي الذي أحدثه تقرير أستاذ جامعة هارفاد بهذا الخصوص أحدث شاهد على ما نقول، هذه الإرهاصات تدفع إسرائيل إلى الحذر في تقدير احتمالات المستقبل، خصوصا أن مصير الورطة الأميركية في العراق لم يعد معلوما، وهي الورطة التي أشارت أصابع عدة في الولايات المتحدة إلى مسؤولية إسرائيل وأنصارها عنها.

في كل الأحوال فإن إسرائيل التي تتعامل بحذر مع مرحلة ما بعد ولاية الرئيس بوش، ستظل تعمل على تصفية القضية تماما خلال السنتين المقبلتين، ولن تكون على استعداد لتقديم أي شيء للفلسطينيين أو العرب، إذا استمر الوضع الراهن في العالم العربي.

إذا صح هذا التحليل فإنه يعني شيئا واحدا هو أن مد الجسور مع إسرائيل ومغازلة حكومتها لن يعنيا إلا شيئا واحدا هو تعزيز مركز حكومة اولمرت، وتشجيعها على مزيد من الاستقواء في مواجهة الفلسطينيين، الذين يتعرضون حتى الآن للحصار والتجويع. في هذا الصدد فانني لا املك سوى التعبير عن الشعور بالحيرة والألم حين أجد أن الأطراف العربية التي أعلنت بعد «التشاور» المذكور عن توجهها إلى مخاطبة الحكومة الإسرائيلية، هي ذاتها التي اعتذرت عن استقبال وزير خارجية حكومة حماس، وهي مفارقة تثير ما لا حصر له من علامات الاستفهام والتعجب.

ثمة حقيقة أخرى مهمة لا أعرف كيف يمكن أن تغيب عن بال «المتشاورين»، وهي ان الذين يحملون حكومة حماس المسؤولية عن التمنع والتصعيد الإسرائيلي، ينسون أن إسرائيل لم تقدم شيئا لا لأبو عمار ولا لأبو مازن، وأن حكاية غياب الشريك الفلسطيني أطلقت بعد حصار الأول وتولي الثاني رئاسة السلطة، وهو ما يعني ان حماس لا علاقة لها بالسلوك الإسرائيلي الذي تذرع بفوزها في الانتخابات ليضيف حجة جديدة يبرر بها الاستمرار في نهجه والاندفاع في محاولة بلوغ مقاصده.

والأمر كذلك، فإن المرء لا يستطيع أن يكتم دهشته إزاء تصور «المتشاورين» لإمكانية قبول إسرائيل لتقديم شيء في وجود حكومة حماس، وهي التي لم تقدم شيئا لأبو مازن ولأبو عمار، لأن العقل والمنطق يقودان لاستنتاج مفاده أن تولي حماس للسلطة يوفر لإسرائيل سببا إضافيا للتعنت وليس للعطاء، أما الكلام عن الحصول على أي استحقاق فلسطيني في الظروف الراهنة، فهو من قبيل التعلق بالسراب والأوهام، لذلك، أخشى ما أخشاه أن يسفر التواصل المفترض مع حكومة أولمرت عن نتائج تمثل مزيدا من الضغط على الفلسطينيين ومزيدا من الجوائز لإسرائيل.

ما العمل إذن؟

إذا جاز لي أن اجتهد في هذا الصدد، فانني أزعم أن الدائرتين الأورو آسيوية والفلسطينية يمكن التحرك فيهما والتقدم عبرهما، إذا توافرت الإرادة وكان هناك إخلاص في السعي لتحقيق السلام العادل في المنطقة، على الصعيد الأوروبي، فإن تسويق فكرة الرئيس محمود عباس لعقد مؤتمر دولي لبحث مصير القضية الفلسطينية وهو الاقتراح الذي رفضته إسرائيل وبالتالي فلا بد أن ترفضه الإدارة الأميركية تلقائيا، هذه الخطوة جديرة بالدراسة مع الأوروبيين ومع الآسيويين، من خلال طرح جاد يحدد طبيعة الاستحقاقات الواجبة الأداء من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. خصوصا وأن الساحة الدولية الآن مشحونة بتعبئة مغلوطة تتحدث عن الاستحقاقات الإسرائيلية، وتتجاهل قضية الاحتلال بالكامل، بحيث عرف الجميع ما الذي يريده الإسرائيليون من الفلسطينيين، ولم يجرؤ أحد على طرح سؤال واحد عما يريده الفلسطينيون من الإسرائيليين.

من ناحية ثانية، هناك الكثير مما يمكن عمله على الجبهة الفلسطينية، سواء على صعيد المصالحة الوطنية، أو على صعيد فك الحصار السياسي الذي فرضته إسرائيل من حول الحكومة المنتخبة، أو من خلال مقاومة حملة التجويع التي يراد بها إذلال الشعب الفلسطيني وكسر إرادته. وهذا الجهد المرتجى لا يراد به فقط تمكين الشعب الفلسطيني من الصمود وتوفير ظروف الاستقرار له، وإنما يراد به أيضا تجنيب الفلسطينيين الانزلاق نحو الفوضى أو احتمالات الحرب الأهلية، التي تلوح بعض نذرها في الأفق. وواهم من يتصور أن إزاحة حكومة حماس هي المشكلة، لأن أي متابع للشأن الفلسطيني يدرك جيدا أن ذلك إذا تم فانه سيكون ايذانا بالدخول في مشكلة أكبر.

لقد انعقد مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط لأول مرة عام 1969م، عقب محاولة إحراق المسجد الأقصى، الأمر الذي أزعج القادة المسلمين في كل مكان فتنادوا إلى اللقاء الذي أسفر عن ميلاد منظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك سعي مشكور وغيرة مستحبة لا ريب، الأمر الذي يشجعنا الآن على الدعوة إلى قمة عربية (تشاوريه؟!) لإطلاق سعي يستهدف تجنب اندلاع حريق الفتنة الكبير في غزة. حيث أخشى وقتذاك ألا يكون الحريق مقصورا على غزة والضفة وحدهما، وإنما قد تمتد شرارته ولهيبه إلى أماكن أخرى.