توسيع دائرة الانتحار.. !

TT

هناك تعبير شائع لدى دوائر الشرطة المصرية، والأرجح لدى كل دوائر الشرطة في العالم، يقول «توسيع دائرة الاشتباه»، ويعني أنه في حالة الجرائم الغامضة والمستعصية على الحل، فإن عملية واسعة تجري للقبض على كل من لهم صلة بالحادث أو الجريمة، على أمل أنه خلال عملية التحقيق مع المقبوض عليهم، ربما يعثر المحقق على سبيل أو متهم لحل المعضلة التي استعصت. ومع الأيام جرى توسيع المفهوم لكى يتم تطبيقه على الجرائم السياسية المتعلقة بالتنظيمات «المحظورة» والأحزاب «الهدامة» والجماعات «التخريبية»، بحيث توسعت دوائر الشك لكي تصل إلى أهالي المتهمين ومن هم ذو صلة حتى أبعد الأقارب والأصدقاء والمعارف. وفي أحيان غير قليلة فإن توسيع دائرة الاشتباه وصل إلى القبض على كل من تواجد في الدائرة المحيطة بالجريمة أو حتى تصادف مروره ساعة حدوثها؛ وفي واحدة من الأفلام المصرية الشهيرة قضى الممثل القدير عادل إمام جزءا من حياته محاولا إقناع محققيه وضباطه في السجن، بأنه كان مجرد راكب من ركاب حافلة عامة حتى صارت صيحته «احنا بتوع الأتوبيس» واحدة من الأمثال المصرية الشائعة التي تضرب ساعة توسيع دائرة الاشتباه.

وهناك اتفاق بين علماء الجريمة والبحث والتحقيق من أن «توسيع دائرة الاشتباه» قد لا يدل على غموض الجريمة فقط، وإنما على ضعف كفاءة الأجهزة الأمنية وعدم قدرتها الفنية والحرفية على الوصول للجناة بأقل قدر ممكن من عمليات القبض. وفي الجرائم السياسية، والإرهابية مؤخرا، فإن مثل هذا التوسع كثيرا ما يؤدي إلى نتائج عكسية من حيث زيادة عدد المتعاطفين والمنضمين للتنظيم المحظور؛ وهناك نظرية متكاملة الآن تقوم على أن واحدا من أسباب العمليات الإرهابية في سيناء المصرية، كان راجعا إلى التوسع الشديد في دائرة الاشتباه بين القبائل السيناوية، مما خلق نزعات انتقامية بين شبابها. والحقيقة أن المشكلة في التعامل مع الجريمة والعمليات الإرهابية لا يكون فقط راجعا إلى الغموض في الحدث نفسه أو وفاة القائم بعملية انتحارية، وإنما من الجائز أن يكون الغموض في ذهن المحقق حول الأهداف التي يريد الوصول لها من التحقيق. وعند غياب الاستراتيجية والتكتيك الملائم فإن عملية توسيع دائرة الاشتباه كلها تصبح كمحاولة للبحث المتخبط عن قطة سوداء في ظلام دامس أو إبرة في هضبة من القش الممتلئة بالحشرات السامة!

ولكن موضوع توسيع دائرة الاشتباه ليس موضوعنا على أية حال؛ ولكن القصد هنا هو المشابهة مع الموضوع الخاص باستخدام العمليات الانتحارية كنوع من أنواع العنف السياسى أي الساعي إلى تحقيق أهداف سياسية من نوع أو آخر. فلم تمض أيام على نشر مقالنا للأسبوع الماضي «كل هؤلاء الانتحاريين» حول تجنيد إيران 55 ألفا للقيام بعمليات انتحارية، حتى صرح السيد علي خامئني المرشد القائد في إيران، أنه في حالة قيام الولايات المتحدة بالاعتداء على إيران، فإنها سوف ترد بضرب المصالح الأمريكية في كل أنحاء العالم. ولا يحتاج الأمر لذكاء كبير حتى يمكن الربط بين الموضوعين، فإذا قامت الولايات المتحدة بضرب إيران، فإن هؤلاء الانتحاريين الذين جرى تدريبهم على استخدام المفرقعات والأحزمة الناسفة، وتعليمهم اللغات المختلفة، سوف ينتشرون في الأرض لضرب السفارات الأمريكية، وضرب الشركات التي تتعامل مع الولايات المتحدة أو يكون للأمريكيين فيها نصيب.

وببساطة فإن ما وعد به مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية هو توسيع دائرة الانتحار حتى تشمل العالم كله، بغض النظر عما إذا كانت دول وشعوب تؤيد أو ترفض العدوان الأمريكي من الأصل، فالمعيار الموضوع للعملية الانتحارية ـ التي ستصير استشهادية بالطبع ـ هو الصلة بالمصالح الأمريكية. وكل ذلك من الناحية الاستراتيجية البحتة يعني أن إيران لن تكسب حلفاء كثرا في هذه الحرب المرتقبة؛ وعلى الأرجح أنها بفعل توسيع دائرة الانتحار سوف تجعل لأمريكا أصدقاء ما كانوا لها من الأصل. وفي الحقيقة أن المواقف الصينية والهندية والروسية المائعة من الأزمة الإيرانية الأمريكية وموافقة دلهي وبكين وموسكو على إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، يعود في كثير منه إلى توسيع دائرة الاستشهاد الإسلامي خلال العقدين الماضيين، لأسباب شتى لحل قضايا أقليات وجماعات.

هنا فإن توسيع دائرة الانتحار لم تحقق الغرض منها، كما كان الحال مع توسيع دائرة الاشتباه، فلا هي تحقق نصرا في الأزمة السياسية بحيث تفلت إيران بقدراتها النووية، لأنها تزيد عدد الخصوم المعارضين، وتدعم تحالفات الخصم الرئيسي كما جرى بين أوروبا والولايات المتحدة؛ تماما مثلما كان الاشتباه سبيلا لزيادة عدد المجرمين والمتعاطفين معهم كما أسلفنا. ومن الجائز تماما أن كليهما ـ الانتحار والاشتباه ـ عكسا غياب استراتيجية حقيقية للتعامل مع قضية بعينها، بحيث تكفل الفوز في الحالة الأولى والقبض على المجرمين في الحالة الثانية. والحقيقة أنه مع غياب الاستراتيجية، فإن عملية التوسيع في دوائر الانتحار والاشتباه تصبح نوعا من تسجيل المواقف، وليس ممارسة السياسة العنيفة والسلمية. ولم يكن تصريح السيد علي خامنئي مختلفا في نصه وروحه عن تصريحات سابقة للسيد صدام حسين، وبينما انتهى حال الأخير إلى واقع مؤسف له وبلاده، فإن قصة الأول لا تزال في أول فصولها.

وعلى أي الأحوال، فإنه لا توجد هنا نية أو قصد بأي معنى للتأكيد على المشابهة بين الحالتين العراقية والإيرانية، ولكن ما يعنينا أولا هو الغياب الكبير للفكر الاستراتيجي لدى بلاد عربية وإسلامية، وثانيا أن تسجيل المواقف أصبح أكثر أهمية من تحقيق أهداف السياسة. وخلال الأسبوع الأخير حدثت سلسلة من العمليات الانتحارية في مدينة ذهب الساحرة على شاطئ خليج العقبة، حيث ذهب المصريون ومعهم أجانب لقضاء عطلة يوم القيامة المجيد، وشم النسيم وتحرير سيناء؛ وفي مدينتي رفح والعريش استهدفت القوات متعددة الجنسية والشرطة المصرية. وفي هذه العمليات جرى توسيع دائرة الانتحار إلى أقصى حد، وطبقا للمعلومات المتاحة لم يكن هناك إسرائيلي واحد من بين المستهدفين، وكان الهدف الواضح للعيان هو أن المتواجدين في المطاعم والأسواق للمدينة السياحية هم من المصريين؛ وفي حادث العريش على الأقل فإن الانتحاري كان يعلم تماما أنه مقبل على تفجير نفسه في عربة شرطة مصرية لا علاقة لها بمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية. بل انه من المدهش ـ وفقا للروايات المنشورة ـ أن رجلنا ترجل عن عجلته وأقبل مكبرا بالتكبيرات العظمى على عربة، كانت قد أصبحت فارغة من ركابها من الشرطة، الذين تركوها واختبأوا خلف ساتر، ومع ذلك فقد فجر نفسه على أية حال.

هنا فإن لدينا حالة نقية تماما من تسجيل الموقف، فالانتحاري الذي وسع دائرة الانتحار تماما لكي تشمل كل الناس، لم يكن يعنيه تحقيق هدف ما من استخدام أقصى درجات العنف وهي تفجير الذات، ولكنه كان يعنيه إعلان موقف ما لا نعرفه تحديدا بغض النظر عن نتائجه الاستراتيجية. ومثل هذه القصة ليست جديدة إطلاقا على حياتنا السياسية العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث انفصمت العلاقة بين الهدف والوسيلة في فلسطين، وصارت الوسيلة هدفا في حد ذاتها. السؤال الآن هو لماذا يفضل بعض الناس تسجيل المواقف على تحقيق الأهداف؟