العراق: «إخوان سُنَّة وشيعة.. هذا البلد ما نبيعه»

TT

صرخة صرخها الخيرون في الشارع العراقي، اثناء الأزمة الحادة، وغياب الرشد، والتغالب على كسب العامة وإثارة وقودها نحو المذبح. هتاف ليس للسياسة والتحزب فيه حصة، إنها عفوية المبادرة للوئام وكراهة سفك الدماء، واستخدام المسجد والحسينية أمكنة لخزن السيوف ومنبتاً لمشاعر الانتقام. ربما دفعت صرخة «إخوان سُنَّة وشيعة هذا البلد ما نبيعه» فقهاء الأديان وأحبارها، وزعامات المذاهب وأئمتها، إلى خطف المبادرة لإصلاح ذات البين. وهذا ما تحقق في مؤتمرين: مؤتمر بلندن، وآخر بعَمّان، وكانا بعيدين عن الأنظار وتأويلات الإعلام، وذلك لغرض الابتعاد عن التشبه بالمؤتمرات السياسية، وما تضفيه الأضواء من رسميات وردود أفعال، ولنقل إنهما كانا لحظتي تأمل وانقطاع عن المؤثرات الرهيبة بالعراق.

حضر، كما تناقلت الأخبار، ممثلو الطائفتين، بعد تمنع ومحاولات لاستعراض تمثيل كثرة الأتباع. وكان مطلب إدانة الإرهاب وأوكار احتضانه في المناطق الغربية، بشكل صريح، مقابل إدانة ذوي الثياب السُود واحتضانه من وجهاء في السلطة. ويبدو ان الاتفاق لم يتم. لأن إدانة الجهتين قد تفقد المتحاورين، المسيسين منهم بالطبع، سلاحاً ينوي كل منهما استخدامه ضد الآخر، وإلا ما الفرق بين القتل بالحزام الناسف وبين رمي المخطوفين جثثاً خلف السدة في نهايات مدينة الثورة؟.

لكن، مع عدم الاتفاق على إدانة عصابات الموت، من الطائفتين، كان الاجتماعان بحد ذاتهما محاولة لتقريب وجهات النظر، وإثارة نوايا التعايش السليم. فالخلاف عبر الوسطاء وعبر خطب المساجد والحسينيات والفتاوى غير الخلاف وجهاً لوجه، وقد حاول الحاضرون التحلي بكظم الغيظ والتصريح بأحسن النيات. نعم هناك ضرورة لمثل هذه اللقاءات، لأن رجل الدين، غير المتورط بالشحن الطائفي وغير المبتلي بالهم الحزبي والسياسي، ما زالت منزلته محفوظة لدى الجميع، وما زال قادراً على التأثير بروح أبوية وهيمنة روحية.. لا يحتاج إلى مغازلة الأتباع أو منافرة مَنْ خالفه بالمذهب أو الدين أو الرأي، ويكفي ما لديه من سطوة القداسة أن يبث روح التسامح ونشر رايات السلام. نسمع خطابات علماء الدين، مَنْ زان خطابه بالعقل والحكمة، ومَنْ جمع في خطابه كل كراهية الأرض، وشتّان بين الخطابين.

كان اللقاء، من قَبل، بين رجال الدين والطوائف محذوراً، أو غير محبب رسمياً في أحسن الأحوال، ذلك لأن السلطة كانت تخشى من تفاهم الأديان والمذاهب خارج شرعيتها، وإدارتها من قبل وزارة الأوقاف ودوائرها الحزبية والأمنية. لذا لا يفاجئنا التباعد بين علماء الشيعة والسُنَّة، فليس بينهم غير التربص والعيش على خلافات الماضي السحيق، من دون أن تتاح لهم فرص المكاشفة. لكن اليوم على الرغم من الاتهامات المتبادلة بين الطرفين إلا أن حواراً جاداً نسمعه في خطب علماء بغداد والمحافظات، وأن هناك شبه ميثاق شرف على حماية البلاد من فتنة وصفت في الأثر النبوي: «صماء بكماء عمياء، مَنْ أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيَّف» (سنن أبي داوود).

ما أن سقط النظام المهيمن بقوة النار والحديد حتى أخذ المغرضون يشرفون بألسنتهم بفتنة دينية ومذهبية مزدوجة، حتى بادر رجل دين مسلم هو الشيخ صفاء اللامي إلى تأسيس «هيئة التضامن الروحي بين الأديان السماوية» شعارها «من أجل السلام»، شارك فيها إلى جانب علماء المسلمين، ممثل الديانة المسيحية المطران شليموني الوردوني، وعن الصابئة المندائيين الكنزابرا (درجة دينية عليا تعني مفسر كتابهم المقدس الكنازربا) ورئيس الطائفة الروحي ستار جبار حلو. كان من أهداف هذه الهيئة: إيجاد أرضية مناسبة لتعزيز التضامن على أساس المشاركة في الوطن الواحد، وتعريف العراقيين المسلمين بالديانات الأخرى التي بين ظهرانهيم منذ قرون، وهم لم يعرفوا عنها شيئاً، وذلك بسبب الحاجز ضد الآخر. وربما لأول مرة يعلن في الصحافة خبر مفاده بأن شيخ المندائيين ووفداً مرافقاً له من الطائفة يزورون المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني. جاء في خبر الزيارة: «كان في استقبال الوفد سماحة العلامة السيستاني، الذي رحب بالوفد بحفاوة بالغة أدهشت الآخرين». بينما هناك من الشيعة مَنْ أفتى بإذلال المندائيين بالبصرة، وأصدر فتوى ضدهم، ووصفهم بالسحرة، بينما كتابهم «الكنزاربا» يحرم السحر والشعوذة، وأن ممارستها تؤدي إلى نار جهنم. وهناك زيارات مكثفة ومتبادلة بين السيد عبد العزيز الحكيم وشيوخ الصابئة ومطارنة المسيحيين. وأول مرة، ربما في تاريخ العراق، تنشر صحف بغداد نبأ زيارة شيوخ المندائيين إلى هيئة علماء المسلمين، واستقبالهم بحفاوة من قبل رئيس الهيئة الشيخ حارث الضاري وأعضاء الهيئة. وأول مرة يحدث أن تحتفي مؤسسة إسلامية دينية بمطران مسيحي هو جبرائيل كساب رئيس أساقفة البصرة. هذا ما قامت به مؤسسة الإمام الخوئي بلندن قبل شهور. وأن يتفق علماء المسلمين العراقيين، من الشيعة والسُنَّة، أن يتولى المطران كساب إلقاء كلمة رجال دين العراق في مؤتمر ديني عالمي عُقد باليابان في العام الماضي.

وبطبيعة الحال تلعب المؤسسات الدينية والمذهبية الحزبية دوراً مشوهاً لتفعيل التعايش السليم بين أبناء الوطن الواحد، والسبب كما يبدو قوتها وربما وجود متعلق بوجود الطائفية، فالعديد منها، إن لم يكن جميعها، تأسس لمواجهة تمييز طائفي، كالذي مارسته الأنظمة السابقة، ومارسه النظام السابق بأعلى درجات القسوة. أفسدت تلك الممارسة التعايش الديني والمذهبي بين العراقيين، حتى عد جاهلاً كل سُنِّي من أهل السطة، وأشير إلى الأيزيدين بخلفية اعتبارهم من قبل السلطة البعثية من أتباع الأمويين أنهم قاموا بضرب المراقد بكربلاء. ومع ذلك لم يقهر العنف والتشدد صوت الحكمة بين العراقيين، فالصورة رغم قتامتها فان فيها كوة تبعث بنور قادم، تحاول حماية الدين والمذهب من جبروت السياسة، ولعبة السلطة، والعودة إلى قاعدة الشراكة في الوطن.

إن صرخة العراقيين النبيلة، رداً على التشويه الطائفي واستغلال حماقات العامة: «إخوان سُنَّة وشيعة هذا البلد ما نبيعه» لهي الأمل الذي يضيء أفئدة وضمائر رجال الدين وهم يعقدون مؤتمراتهم، ويتفقون ولا يتناكفون، بعد فشل الأحزاب السياسية ذات المنحى الطائفي في إصلاح ما يمكن إصلاحه، والحفاظ على البقية الباقية من نعمة العراق.

[email protected]