ريعان وميعه

TT

عندما كنت في ريعان الشباب ـ حلوة كلمة (ريعان) هذه ـ، ولو أن ربي رزقني بولد في هذا العمر لأطلقت عليه اسم (ريعان) ـ وأحلى من ذلك التعبير هو: عندما كنت في ميعة الصبا ـ ولا اعتقد أن هناك أجمل من كلمة (ميعة) ـ ولو أن ربي رزقني كذلك ببنت كنت حتماً سوف اسميها (ميعة) ـ، الغرض من كل ما تقدم من كلامي أنني أريد أن أقول: عندما كنت (مجنوناً غير مربط)، ليس مثلي الآن (مجنون مربط)، انطلقت في ارض الله الواسعة لا الوي على شيء، اذرع الأرض مثلما كان يذرعها (ابن زريق)، وتقلبت على الرمل والحصا والشوك في صحراء جرداء عصيّة، لا يغطيني غير ظلام الليل ونجوم السماء وأمواج الرياح، سكنت الخرائب متعمداً وكأنني أتحدى الأشباح والسحالي والثعابين، لم يكن يضيء لي غير فانوس ذبلت فتيلته من كثرة ما أطفأتها دموعي، ولكن رغم أحزاني التي لم يكن لها حد، كانت أفراحي بنفسي وبالحياة اكبر، وكانت تأملاتي أوسع، وسؤالاتي أوجع، وتحدياتي أشرس، واهتماماتي بالصغائر لا تقل عن الكبائر أبداً، كنت أليفاً بقدر ما كنت عنيفاً، ومسالماً بقدر ما كنت مقاتلاً، ورزيناً بقدر ما كنت صفيقاً، وأتمنى التشبث بجدائل الشهب والنيازك بقدر ما أتمنى التشبث بجدائل البنات.. في تلك الأيام الخوالي لم يكن للخوف أو الذعر أو التطير مكان في فؤادي ولا أوصالي، كان عنترة والزير سالم والدون كيشوت كلهم يتلفعون بأرديتي ويحتمون بجنابي.

وبعد فترة، بعد أن كبرت، وبعد أن ذهب ريعان وميعة، كل في حال سبيله، وبعد أن بقيت وحدي في البيت اخرط البصل واقطع البقدونس، تذكرت الأيام الخوالي بخيرها الذي كان كله طعامة، وبشرها الذي هو أروع من الخير نفسه، جلست أحاسب ذاتي، واعد حصيلتي ومكاسبي وخسائري وماذا بقي في حوزتي من الأمل، وراعني أن قلبي المثقوب ما زال نازفاً، وان مهجتي المحترقة ما زالت مختنقة بغيوم الدخاخين، وان بصري ما زال كفيفاً، وان يدي ما زالت تشكو وتنتحب من ذل الشلل وعدم القدرة.

وفي يوم من الأيام قررت أن أعود إلى بعض الأماكن التي سبق لي أن زرتها وسكنتها، عندما كان برفقتي (ريعان)، وكانت بصحبتي (ميعة)، وفعلاً ذهبت إلى خرائب الطين، وهالني كم هي صغيرة وكنت اظنها فسيحة، وكم هي موحشة وكنت اظنها مؤنسة، وكم هي حزينة وكنت اظنها سعيدة، وكم هي باكية وكنت اظنها ضاحكة، وكم هي مديرة ظهرها للحياة وكنت اظنها مقبلة.. مكثت بها وحيداً طوال النهار كله، ولم يكن معي أية وسيلة كتابية أو قرائية أو سمعية أو مرئية أو ترفيهية، ليس معي غير ملابسي التي أقول لكم بكل صراحة إنني ضقت ذرعاً حتى بها هي، ولولا خشيتي من البرد لقذفت بها جانباً.. جلست متقرفصاً على حالي استرجع الزمان علهّ يرجع، غير أن الزمان كان بواد يجمع غلته، وأنا كنت في واد آخر أعدد هزائمي وذنوبي وخيباتي.

وخرجت تجرني وتسحبني أقدامي، وضوء نجمة بعيدة ينعكس على دمعة مترقرقة عاجزة وخائفة عن الخروج من محجر عيني.

[email protected]