لغة واحدة وعشرات الأصابع

TT

يقال إن اللغة العربية هي الأوسع في مفرداتها، إذ تحوي نحو مليون و900 كلمة، مقابل 250 ألف كلمة في اللغة الإنجليزية و300 ألف كلمة في اللغة الفرنسية، ورغم هذا تجدنا نستخدم أصابعنا وأيدينا وعيوننا ولربما أقدامنا أيضا عندما يحتدم النقاش حول أية قضية، وكأن اللغة العربية، بالمليون والـ 900 كلمة، عاجزة عن إسعافنا كي نتحاور بالكلام. وقد كنت أشاهد برنامج «الاتجاه المعاكس» في قناة «الجزيرة» قبل فترة، حينما تعالت أصوات المذيع والمتحاورين دفعة واحدة، وكانت طفلة بالجوار فقررت أن أخفض صوت التلفاز واكتفي بمتابعة الصورة، وهي تجربة أنصحكم بتجريبها إذا ما أردتم التأكد من أننا رغم ثراء اللغة لم نستطع أن نستغني عن تعبيرات الأيدي والوجوه والعضلات كإشارات لا بد منها لإتمام عمليات حواراتنا الفكرية، وقد حمدت الله أن المسافة التي تفصل بين المتحاورين أطول من امتدادات الأيدي والأصابع وإلا لخرج الجميع بعين واحدة.

ويمكن القول إنه رغم ثراء اللغة العربية إلا أن أعدادا كبيرة من الذين يتحدثون بها فقراء في قاموس مفرداتهم، إذ لا تشكل المفردات التي يستخدمونها طوال حياتهم سوى جزء محدود من هذه اللغة الثرية، وبالتالي تنشأ الحاجة إلى الاستعانة بكل ضروب الإشارة. وقد يرى علماء النفس أن كثرة الإشارات المصاحبة ليست أدوات إشارة فحسب، ولكنها أيضا مظهر من مظاهر التوتر الداخلي للفرد، وتزداد في حالات الهياج كالتي تحدث في بعض البرامج الحوارية على شاشات الفضائيات، ومن المنجد لهؤلاء أن قاموس الإشارات في العالم العربي على درجة كبيرة من الثراء بحيث تكفي إشارة واحدة للوصول بالحوار إلى تخوم الخصومة.

ولا أعتقد أن المتحاورين على شاشاتنا العربية جميعهم قد قرأوا للمفكر الصقلي لويجي بيراندللو وتأثروا بفلسفته التي تؤمن بعجز اللغة وفراغ الكلمات، إذ يقول:«أنا أضع في الكلمات التي أقولها معنى الأشياء وقيمتها كما هي في أعماقي بينما يعطيها الذي يسمعها ويتقبلها المعنى الذي في نفسه للعالم.. لذا نحن نعتقد أننا متفاهمون، ولكننا لن نتفاهم أبدا».. فهذا المفكر يرى أن المصيبة في الكلمات، ولكنني لا أعتقد أنه كان يقصد بالضرورة أن نقتلع عيون بعضنا كي نتغلب على إشكالية فراغ الكلمات، بحسب زعمه.

وأنا اقترح أن يعمد مصممو الأزياء العرب إلى تصميم أزياء واقية يمكن أن يرتديها المتحاورون في بعض برامجنا الحوارية بحيث توفر لوجوههم وعيونهم السلامة من أصابع المفكرين والمنظرين والمحللين السياسيين في حوانيت الفضائيات إذا ما احتدم النقاش واختفى صهيل الكلمات خلف غبار الأذرع التي تلوح وتطوح في فراغ المكان.. وحسبنا وحسبك الله.

[email protected]