جدل أكاديمي حول دراسة عن دعم أميركي لإسرائيل

TT

نشرت المجلة البريطانية الرصينة «لندن ريفيو بوكس»، مقالة بعنوان «لوبي إسرائيل»، والمؤلفان هما أكاديميان أميركيان متميزان (ستيفن والت من جامعة هارفارد وجون ميرشايمر من جامعة شيكاغو) وهذه المقالة مقتبسة من دراسة متكونة من 83 صفحة سبق أن نشرت على موقع ويب كلية كيندي في جامعة هارفارد.

ومثلما توقع المؤلفان أثارت المقالة ردود فعل غاضبة. إذ قال المنتقدون إن بحثهما الأكاديمي رديء جدا، وإن مزاعمهما حسب كاتب العمود كريستوفر هيتشينز «ذات رائحة كريهة». والرائحة هي بالتأكيد إشارة لمعاداة السامية.

يمكن القول إن هذا الرد الهستيري مثير للأسف. إذ حتى مع عنوان المقالة الاستفزازي فإنها استندت إلى مصادر رفيعة وكثيرة ولا تثير خلافا. لكنها طرحت زعمين مهمين ومتميزين في آن واحد.الأول هو أن الدعم غير المشروط لإسرائيل خلال عقود عديدة لم يخدم مصالح الولايات المتحدة. وهذا تأكيد يستحق المناقشة. أما الزعم الثاني فهو أن أكثر إثارة للجدل: جرى تحريف خيارات السياسة الخارجية الأميركية بواسطة مجموعة ضغط محلية واحدة هي «لوبي إسرائيل».

قد يفضل البعض حينما يجري شرح المبادرات الأميركية في الخارج إلى وضع الإصبع على «لوبي الطاقة» المحلي. بينما قد يلوم البعض تأثير المثالية الويلسونية أو الممارسات الإمبريالية المتبقية من أيام الحرب الباردة. لكن أن يكون هناك لوبي خاص بإسرائيل هو أمر لا يمكن نكرانه من قبل أي شخص يعرف كيف تصاغ قرارات وقوانين واشنطن. ويشكل نواة هذا اللوبي «لجنة شؤون إسرائيل العامة الأميركية»، وهي مظلة تضم عددا كبيرا من المنظمات اليهودية.

هل إن لوبي إسرائيل يؤثر سلبا على خياراتنا في مجال السياسة الخارجية؟ هذا هو واحد من أهداف وجوده. وكان بالأحرى ناجحا: فإسرائيل كبلد أجنبي تحصل على أكبر حصة من المساعدات الأميركية المخصصة للخارج، كذلك فإن ردود الفعل الأميركية لسلوك إسرائيل ظل على طول الخط خاليا من الانتقاد أو داعما لها.

لكن هل الضغط على إسرائيل أو دعمها يحرف القرارات الأميركية؟ هذه قضية حكم. فقادة إسرائيل البارزون ومن يدعمهم من الأميركيين ضغطوا بقوة من أجل غزو العراق، لكن الولايات المتحدة كانت قد وصلت اليوم إلى العراق حتى بغياب أي لوبي مساند لإسرائيل. وهل إسرائيل حسب كلمات المؤلفين ميرشماير ووالت هي «عائق في الحرب على الإرهاب وفي التعامل مع البلدان المارقة». أظن أن الجواب هو نعم؛ لكن ذلك أيضا موضوع نقاش مشروع.

كانت الدراسة وما أثارته من قضايا تتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية موضع تحليل ونقاش في الخارج. وفي الولايات المتحدة كانت هناك قصة أخرى حولها: هناك صمت حقيقي في الإعلام السائد. لماذا؟ هناك شروح عديدة لذلك. أحدها هو أن المسائل الذي أثارته الدراسة لا تشكل اهتماما كبيرا لدى القراء. والآخر يرى أن الزعم بوجود تأثير يهودي على السياسة الخارجية الأميركية سيثير اهتمام أطراف متطرفة. وهناك من يرى أن واشنطن هي في كل الأحوال مغمورة بلوبيات من هذا النوع يقوم كل منها بالضغط كي تحرف الاختيارات المطروحة أمام إدارة واشنطن.

قد يكون أي من هذه الاعتبارات شهادة معقولة بالنسبة لعدم مبالاة الإعلام السائد تجاه دراسة ميرشايمر ـ والت. لكنها لا تستطيع أن تقنع بسبب استمرار الصمت حتى بعد أن أثارت نقاشا عاصفا على مستوى أكاديمي ضمن الوسط اليهودي، وفي شتى أنحاء العالم. أظن أن هناك عنصرا آخر هو الخوف. الخوف من أن يظن المرء المهتم بالدراسة بأنه يريد أن يؤسس لنظرية «المؤامرة اليهودية» والخوف من الاتهام بالعداء لإسرائيل وفي آخر المطاف الخوف من منح شرعية التعبير عن معاداة السامية.

والنتيجة النهائية هي أمر مثير للأسف ـ الفشل في اعتبار قضية أساسية كهذه موضوعا للاهتمام. لذلك فإنك قد تتساءل لماذا كان هناك نقاش غني أوروبي حول هذه الدراسة؟ أليست أوروبا هي مكان المعادين للصهيونية والذين لا يفوتون فرصة لمهاجمة إسرائيل وصديقتها أميركا؟ لكنه ديفيد أرونوفيتش كاتب العمود في صحيفة تايمز الذي انتقد ميرشايمر ووالت لكنه مع ذلك سلم بأنه يتعاطف مع «رغبتهما في إعادة النظر في هذه المسألة، لأن هناك عجز مستمر في الولايات المتحدة على فهم محنة الفلسطينيين».

وكان الكاتب الألماني كريستوف بيرترام، وهو صديق قديم لأميركا في بلد حيث كل شخصية عامة تتخذ موقفا دقيقا في التعامل مع مثل هذه الأمور، هو الذي كتب في «داي زايت» من أنه «من النادر ان نجد باحثين يتمتعون بالرغبة والجرأة في كسر المحرمات».

فكيف لنا أن نوضح حقيقة أنه في اسرائيل نفسها نشرت على نحو شامل تلك القضايا المقلقة التي أثارها الأستاذان ميرشايمر ووالت؟ وكان كاتب عمود اسرائيلي في صحيفة «هاآرتس» الليبرالية اليومية، هو الذي أشار إلى مستشاري السياسة الخارجية الأميركية ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث باعتبارهما «يسيران في خط دقيق بين ولائهما للحكومات الأميركية ومصالح اسرائيل». ووصفت صحيفة جيروزاليم بوست المحافظة بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع، باعتباره «مؤيدا لاسرائيل باخلاص». فها يتعين علينا أن نتهم اسرائيل، أيضا، بـ«معاداة الصهيونية»؟

ان الضرر الذي تسببه خشية أميركا من معاداة السامية عند مناقشة اسرائيل ضرر ثلاثي الأبعاد. فهو سيئ بالنسبة لليهود، ذلك ان معاداة السامية فعلية بما يكفي (أعرف شيئا حولها اذ نشأت يهوديا في بريطانيا الخمسينات)، ولكن بسبب ذلك المبرر فقط يجب ألا تخلط مع النقد السياسي لاسرائيل او مؤيديها الأميركيين. وهي سيئة بالنسبة لاسرائيل، ذلك انه بضمان الدعم غير المشروط يشجع الأميركيون اسرائيل على التصرف بغض النظر عن العواقب. ووصف الصحافي الاسرائيلي توم سيغيف مقالة ميرشايمر ـ والت بأنها «متغطرسة»، ولكنه اعترف أيضا على نحو حزين بـ«أنهما على حق. فلو أن الولايات المتحدة أنقذت اسرائيل من نفسها لكانت الحياة اليوم أفضل. ان لوبي اسرائيل في الولايات المتحدة يلحق ضررا بمصالح اسرائيل الحقيقية».

ولكن قبل كل شيء تعتبر الرقابة الذاتية سيئة بالنسبة للولايات المتحدة نفسها. فالأميركيون يحرمون أنفسهم من المشاركة في المحادثات الدولية المتحركة سريعا. وكتب دانيل ليفي (مفاوض السلام الاسرائيلي السابق) في صحيفة هاآرتس ان مقالة ميرشايمر ـ والت يجب ان تكون نداء استيقاظ، ومذكرا بالضرر الذي يرتكبه لوبي اسرائيل لكلا البلدين. ولكنني سأمضي الى ما هو أبعد. أعتقد أن هذه المقالة، التي كتبها اثنان من اخصائيي العلوم السياسية «الواقعيين» ليس لديهم اهتمام بأي شكل كان بالفلسطينيين، هي قشة في الريح.

واذا ما عدنا الى الوراء سنرى أن حرب العراق وعواقبها الكارثية ليس باعتبارها بداية عصر ديمقراطي جديد في الشرق الأوسط، وانما نهاية لعصر بدأ في أعقاب حرب عام 1967، وهي فترة تكون خلالها التحالف الأميركي مع اسرائيل في اطار مبدأين: الحسابات الاستراتيجية في عهد الحرب الباردة والحساسية الداخلية الجديدة لذكرى الهولوكوست والدين لضحاياها والناجين منها.

وبالنسبة لمصطلح الاستراتيجي فإن الجدال يتغير. فشرق آسيا تتزايد أهمية كل يوم. وفي غضون ذلك فإن اخفاقنا الأخرق في اعادة صياغة الشرق الأوسط، ودلالاته بالنسبة لموقفنا هنا، قد بات موضع تركيز حاد. فالنفوذ الأميركي في ذلك الجزء من العالم يستند الآن بالتحديد تقريبا إلى قدرتنا على شن الحرب، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف انه ليس نفوذا على الاطلاق. وربما تجتاز الهولوكوست، قبل كل شيء، الذاكرة الحية. ففي أنظار العالم المراقب فإن حقيقة أن جدة جندي اسرائيلي ماتت في تريبلينكا لن يبرر سوء تصرفه.

وهكذا فإنه لن يكون من الجلي بالنسبة لأجيال الأميركيين المستقبلية سبب التحالف الوثيق للقوة الهائلة والسمعة الدولية للولايات المتحدة مع دولة صغيرة مثيرة للجدل في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وهذا الأمر ليس جليا على الاطلاق بالنسبة للأوروبيين والأميركيين اللاتينيين والأفارقة والآسيويين. فهم يتساءلون عن سبب اختيار أميركا أن تفقد التواصل مع بقية دول العالم بشأن هذه القضية؟ وقد لا يحب الأميركيون دلالات هذا السؤال. ولكنه سؤال ملح. انه يرتبط مباشرة بموقفنا ونفوذنا الدولي. ولا علاقة له بمعاداة السامية. ولا يمكننا ان نتجاهله.

* خدمة «نيويورك تايمز».