جمهورية «الحوار»

TT

رائع لدولة لم يمض اكثر من خمس عشرة سنة على آخر حرب اهلية خاضتها أن يتكرس الحوار السياسي فيها «ليس كاسلوب فحسب.. بل كنهج حياة مطلوب ايضا»، كما قال رئيس المجلس النيابي اللبناني، نبيه بري، الامر الذي شجعه على اقتراح تحويل مؤتمر الحوار الوطني في بيروت الى «مؤسسة دائمة» يلجأ اليها اللبنانيون كلما اشتدت خلافاتهم (أي يوميا على الأرجح).

الا ان اقتراح الرئيس بري، على وجاهته، يوحي بأن الاجماع الوحيد الذي حققه الحوار هو.. الحوار، أي الاتفاق على حسم الخلافات بين اللبنانيين بالكلام وليس بالرصاص.. مع الاعتراف بأن هذا، بحد ذاته، انجاز.

بعد جمهورية افلاطون، وبعد المدينة الفاضلة.. هل يدخل لبنان التاريخ يوما كجمهورية للحوار؟

معظم اللبنانيين لا يمانعون في ذلك إذا كان الالتزام بالحوار يعني التمهيد لالتزام أكثر جدية باللعبة الديمقراطية، خصوصا ان اقتراح تحويل مؤتمر الحوار الى مؤسسة دائمة يوحي بأن ازمات لبنان مرشحة لان تطول ولا بد من مؤسسة دائمة لاحتواء «تسربها» الى الشارع، مع كل ما يستتبعه ذلك من تحريك وتأجيج وتدخل «أجنبي» فيها.

لن نقول ما اقصر العمر حتى نضيعه في الحوار: طاولة حوار تجمع خير من خطوط تماس تفرق.

ولكن إذا كان اللبنانيون لمسوا ان طاولة الحوار كانت أفضل تمثيلا لهم من مجلسهم النيابي فقد لا يعود ذلك الى نقلها الصراعات من الشارع الى غرفة مغلقة ولا الى موقفهم من مجلسهم النيابي وقانونه الانتخابي بقدر ما يعود الى شعورهم بان طاولة الحوار ضمنت تمثيلا متوازيا بينهم عبر اقطاب طوائفهم.. أي انها اعطت الطوائف اللبنانية حضورا ان لم يكن «متساويا» بينها ففي الاقل حضور وضع هموم كل طائفة في لبنان «على قدم المساواة» مع هموم الطوائف الاخرى، بصرف النظر عن الاحجام الديمغرافية لهذه الطوائف.

وهنا بيت القصيد في طرح هذا السؤال البديهي: إذا كانت تجربة طاولة الحوار مؤشرا على أهمية «التوازي» التمثيلي في اتخاذ القرارات المصيرية واستطرادا في إضفاء مصداقية وطنية عليها، فلماذا لا تكون طاولة الحوار منطلقا لاحياء المؤسسة المثلى لتأمين التمثيل الطائفي المتوازي في لبنان، أي مجلس الشيوخ؟

عمليا، لا حاجة لابتداع مؤسسة جديدة في لبنان ـ ولبنان الرسمي يشكو تخمة المؤسسات الرسمية ونصف الرسمية ـ طالما ان دستور الطائف نص على تمثيل طائفي متواز في اطار مجلس شيوخ من المفترض ان يمهد يوما لنقلة نوعية لا تزال «حلم ليلة صيف» للعديد من اللبنانيين: الغاء نظام التوزيع ـ ولا نقول التمثيل ـ الطائفي باكمله.

حالة التشرذم الطائفي السائدة حاليا على مستوى الشارع اللبناني قد تكون الفرصة المواتية لاحياء هذا النص المنسي ـ والأصح المتناسى ـ في دستور الطائف، فانشاء مجلس الشيوخ أصبح الاجراء الانسب لامتصاص المد المذهبي المتنامي في لبنان. وقيام المجلس في هذا الظرف الداخلي الدقيق في لبنان والوضع الاقليمي الضاغط مذهبيا على شارعه يجعله بمثابة «صمام أمان» لنزاعات غالبا ما تبدأ سياسية ثم تنقلب طائفية بامتياز.

وإذا كان الهدف الابرز لتشكيل مجلس شيوخ لبناني العمل على ازالة الشكاوى المزمنة من «فقدان التوازن» داخل المؤسسات اللبنانية فقد يكون انجازه الابعد مدى نقل الصراع السياسي ـ الطائفي من دائرة تحقيق «التوازن» الى دائرة تحقيق «الشراكة» في القرار والمصير.. والشراكة هي البداية الطبيعية لقيام لبنان الوطن.

هذا الهدف بالذات هو ما قصده المشترع في نصه في اتفاق الطائف على تشكيل مجلس للشيوخ تتمثل فيه كل الطوائف اللبنانية بالتساوي.

آنذاك، ربما كانت الخلفية الضمنية لاقتراح مجلس شيوخ لبناني على قاعدة التمثيل المتساوي لكل طوائفه احتواء النزعات الانفصالية ـ التي أطلت برأسها في خضم الحرب الاهلية ـ في إطار من الفيدرالية الطائفية القادرة على المحافظة على وحدة لبنان وسيادته عبر محافظتها على حقوق أقلياته.

وعلى هذا الصعيد يمكن مقارنة لبنان، «سويسرا الشرق» سابقا، بـ«سويسرا الغرب» التي تعتمد نظاما فيدراليا إثنيا يضمن تمثيلا متساويا لأقلياتها العرقية بغض النظر عن احجامها الديمغرافية.

إلا ان المؤسف في هذه المقارنة ان فيدرالية الطوائف في لبنان يفترض ان تكون أقل تقسيما لابنائه من فيدرالية الاثنيات في سويسرا، فاللبنانيون، في نهاية المطاف، شعب واحد وشعب عربي تميزه الوحيد عن الشعوب العربية الاخرى اجتماعي لا عرقي.

ولكن، وبقدر ما هو مؤسف ان تكون المعادلة السياسية في لبنان طائفية، وان يكون مجلس الشيوخ مجرد اجراء تصحيحي لهذه المعادلة، فان العبرة الابرز من قيام المجلس قد تكون ردمه، ولو داخل عضويته، للهوة القائمة بين اللبنانيين المتمتعين بكامل حقوق المواطنة واللبنانيين الأقل حقوقا منهم بحكم «الولادة» ـ أو الهوية المذهبية ـ أي ان يصبح مجلس الشيوخ بداية انعتاق لبنان من نظام «المواطنين» على صعيد الواجبات الواحدة، و«الرعايا» على صعيد الحقوق المتفاوتة.