أسامة بن لادن والأكاديميون العرب

TT

بن لادن تحدث عن«حرب طويلة الأمد» مع العدو في شريطه المتلفز الذي عرض الأسبوع الماضي، ومثله قال الأكاديميون الذين قدموا بالمئات الى «الملتقى العربي الثالث للتربية والتعليم» الذي عقدته «مؤسسة الفكر العربي» في بيروت. حتماً الفرق شاسع بين التجربة اللادنية الحربية، واللغة الأكاديمية التي سادت الملتقى، مسلحة بالأرقام والدراسات والنقاشات، بدل الرشاشات والقنابل والتهديدات. لكن الكلام العربي على «الخطر الداهم» يبدو وكأنه بات كالقدر، يشترك فيه صاحب التنظيم السري الأشهر في العالم مع مدير الجامعة والوزير وأحياناً رئيس الدولة.

وبينما كانت اشرطة قادة «القاعدة» تتوالى على الشاشات، والانفجارات تتصاعد من سيناء، كان ثمة مئات من الأكاديميين في بيروت يحاولون تشريح المشكلات التعليمية وتوصيف الداء والعثور على دواء، في أجواء حوارية منفتحة. لكن كي تفهم ما يحدث هناك، كان عليك أن تستمع إلى ما تقوله النخب هنا، وتتناوله صراحة في جلسات بوح حماسية، أقل ما يقال فيها إنها كانت صادقة.

كل المحاور كانت تعيد الحاضرين إلى الكلام على «خطر الشرق الأوسط» و«التحديات الدولية» و«الهجمات الخارجية» وضرورة الحفاظ على «المحلية» و«الذاتية» وعدم «الذوبان» في مفهوم العالمية حد «التلاشي». وكل دعوة للانفتاح على الآخر كان يجد صاحبها نفسه مضطراً لأن يشرطها، وبنبرة قوية وصوت عالٍ، باحترام «الخصوصية» و«القيم العربية»، كي لا يجد من الحضور من يتهمه بالاستخفاف بـ«الهوية».

«ما هي المواطنة؟»، سؤال يبدو للوهلة الأولى متاح الجواب، لكنه في الملتقى، بدا أصعب من تسلق جبال الهملايا، فإن قال أحدهم إن الانتماء للوطن بحدوده الجغرافية هو الأساس والجوهر، قام آخر ليذكره بأمته وامتداده الإسلامي الشاسع، الذي فيه، يجد كرامته المهدوره. ولا تستغرب أن يهبّ ثالث عروبي ليقول وقد أخذته الحمية: «لماذا يأتي انتماؤنا للوطن على استحياء، نحدث أولادنا عن الشيشان وأفغانستان بينما لا يعرف واحدنا ما الذي يجري في صعيد مصر».

ويتشعب الكلام على «المواطنية» إلى حيث لم تكن تتخيل فتدخل فيه «الحرية» و«الحجاب» وقيم «العدالة» ومفهوم «الدولة» ووجدانيات «الشعراء» ومستوى «الفقر» حتى تتأكد، أن المسافة بين الخلاص وعالمك العربي الذي تحيا تحت سمائه، هي أصعب من اجتياز المحيط الأطلسي، بطريقة سباحة الضفادع.

يقظة حقيقية هي تلك التي تدفع بالجميع لأن يعلنوا مخاوفهم، ويشهروا مخالبهم؟ أم ارتعادة خوف مرضية؟ فإن تكلم المحاضرون عن تعليم «حقوق الإنسان» في المناهج، تعجب أحدهم من المناداة بحقوق الطفل، والشعوب في فلسطين والعراق تقهر وتعذب، وتذبح عن بكرة أبيها، فأيهما أحق بالكفاح من أجله الآن، الحقوق الوطنية المسطو عليها أم حقوق النساء مثلاً؟ وإن جاء محاضر ليقول بضرورة إدراك أن المخلوق بات جزءاً من نسيج عالمي كبير ما عاد فيه من فواصل أو عوائق، وعلى الطالب العربي ان يربى على تقبل الراهن الجديد، ردت إحدى الحاضرات بأن التربية على العالمية هي قبول الآخر لنا كما قبولنا نحن بالآخر، كي تكون علاقة الند بالند وليست علاقة أتباع وعبيد بأسياد.

أنت قد لا تتفق مع كل المتحدثين، وتجد بعضهم يشطح بمخاوفه حد فرملة مجتمع بأكمله، لكنك لا تملك بعد كل نشرة أخبار تعلمك بأن الفلسطينيين يعاقبون يومياً لأنهم ذهبوا إلى الانتخابات، واختاروا ممثليهم بملء إرادتهم، بالتجويع والتركيع، إلا ان تلين أمام من يخشون الهجمة، ويحتاطون من الأسوأ. ولم يكن مخطئاً أحد الحاضرين السعوديين في الملتقى، الذي تحدث عن مأساة غياب العدالة، وكارثة الإحساس الدائم بالظلم: «إذا شعرنا بالعدل ستسكننا الطمأنينة وسنكون أكثر قدرة على الحركة والتطور، وطالما أننا خائفون، سنبقى مترددين نراوح مكاننا.

الشعوب العربية لا تشعر، وهي محاطة بالمكائد والأسرار والخطط الجهنمية، فقط بالخوف وانما أيضا ترتفع في دمائها الجرعات العدوانية، التي يعبر عنها كل على طريقته.

وكي تبدو الصورة أوضح أختم هنا بمقطع من رسالة كتبها الي صديق باحث من الضفة الغربية يقول:

«يبدو ان الواحد يحتاج لنظرية المؤامرة ليفهم ما يجري عندنا. لا ادري لماذا لا يريدون التعامل مع حكومة حماس، يخيل لي ان هذا العالم لم يفهم بعد مغزى انتخاب الفلسطينيين لحماس، واعتقد ان عدم انجاح حماس يعني انه لم يبق للفلسطينيين غير القاعدة. هل يريدون ان يخلقوا واقعا في فلسطين كالعراق ويكون فيه زرقاوي جديد. مخابرات الدنيا كلها تعمل في فلسطين واظن انها تعلم ذلك تماما، هل هناك من يخطط لسيناريوهات معينة في المنطقة؟ اسرائيل تتحدث عن وجود للقاعدة في فلسطين، ونشر موقع استخباري اسرائيلي تقريرا متوقعا حربا اهلية في لبنان، متحدثا عن ميليشيات واسماء قادتها وتسليحها، وكأن الحرب ستقع غدا، هل يريدون دفع الامور الى صورة يريدونها ؟ هل نحن مجرد اداة ؟ هل نعيش في غفلة ؟ امور غامضة فعلا!

ما يحزن في الوضع عندنا، بشكل خاص، هو استمرار نزيف الدم وسقوط الشهداء، انه امر مؤلم ومثير للشجون».

الكل يتأهب لغد أسوأ، وهنا المحنة الكبرى، من بن لادن الذي يحضر لمعركة جديدة يتصدى فيها للأعداء غرب السودان، إلى صديقي الباحث المسالم الذي يقبع في فلسطين منتظراً الفرج بين كتبه وأوراقه، مروراً بأكاديميي الملتقى العربي للتربية والتعليم الذين قدموا اقتراحات رائعة، وتصورات مبدعة، لطلاب أذكياء، وأساتذة أكفاء. لكن كل باحث عاد إلى بلاده، وهو يعلم أنه زمن الكلام، وأن زمن الفعل لم يحن موعده بعد.

[email protected]