اللعبة الإيرانية.. والدور السوداني

TT

على اصداء قعقعة التصريحات النارية للرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد تتخللها تصريحات بالحدة نفسها لمرشد الثورة آية الله خأمنئي تتضمن الاصرار على مواصلة العمل في المشروع النووي وتهديد المصالح الاميركية في حال حدث العدوان الذي تتزايد احتمالات حدوثه من جانب اميركا ـ بريطانيا ـ اسرائيل عملياً ومن جانب الاطراف الثلاثة ومؤازرة المجمتع الدولي سياسيا، يحط الرئيس السوداني عمر البشير رحاله في ايران مخترقاً بذلك العزلة التي تريد اميركا فرضها على النظام الايراني غير عابئ بما يمكن ان تفعله الادارة الاميركية به وتحديداً في موضوع التفاوض حول دارفور خصوصاً ان الزيارة البشيرية حدثت في وقت كانت جلسات التفاوض التي تستضيفها «ابوجا» بدأت وسط منطق متشدد من جانب الدارفوريين الذين يتطلعون إلى مكاسب من النوع الذي حصل عليه الجنوبيون.

ومع ان زيارة البشير مقررة منذ ثلاثة أشهر بما يعني ان الزائر الرفيع الشأن لم يكن بات رئيسا للقمة العربية التي استضافتها الخرطوم في إطار دورية الانعقاد يومي 28 و29 مارس (آذار) 2006، إلا ان تلبية البشير لها بعدما كان استضاف قمتين: واحدة لم ينل منها ما كان يصبو اليه وهو الرئاسة الافريقية، وقمة ثانية ترأسها بحكم التقليد المتبع وبات بموجبها «رئيساً» لكل العرب على مدى سنة كاملة، جاءت بمثابة لحظة ارادت ايران النووية توظيفها على أفضل ما يكون عليه التوظيف آخذة في الاعتبار ان الزائر المرموق سيكون بحكم ما جرى التوافق في شأنه خلال انعقاد القمة الافريقية في الخرطوم رئيساً للاتحاد الافريقي انما بعد ترؤس النيجيري اوبا سانجو الاتحاد لمدة عام.

في لقائه بالمرشد خأمنئي بحضور الرئيس نجاد لاحظ البشير اهتماماً به يتجاوز التصور وفوجئ بقطبي القرار الايراني يعرضان عليه تصدير «الإعجاز» النووي الأمر الذي جعله يستحضر وعوداً ايرانية سابقة لم يتم تنفيذها بما في ذلك ما يتعلق بطريق سريع وضعت الدراسات من اجل تنفيذه وتم التفاهم من حيث المبدأ على تمويله لكن المراوحة البشرية بين تطييب الخاطر الاميركي والتحدي في بعض الاحيان للتعامل الخشن من جانب ادارة الرئيس بوش مع الموضوع السوداني جعلت الايرانيين يعيدون النظر في ما وعدوا به انما من دون الاعلان عن الغاء التعهد. ولقد استعصى على البشير تفسير هذا السخاء النووي من جانب ايران الذي يشبه في بعض موجباته ذلك السخاء النفطي من جانب الحكم الصدَّامي في زمن الحصار الاميركي البوشي للعراق، عندما اعلن ذلك الحكم عن استعداده لتزويد الدول العربية والافريقية ودول العالم الثالث قاطبة بالنفط العراقي مجاناً شرط ان تأخذ هذه الدول على عاتقها امر ارسال السفن التي تنقل النفط. وكان الغرض هو كسر الحصار الذي لم ينكسر، ذلك ان الحصار الاميركي بحراً على العراق محكم إلى درجة لا يمكن لأي ناقلة اختراقه. وفي نهاية الأمر ذهب العرض الصدَّامي ادراج الرياح إلى ان جاءت حكاية «الكوبونات» تحل مشكلة الحاصلين عليها اكثر مما تحل مشكلة الحكم.

وغالب الاعتقاد ان هذا السخاء النووي من جانب ايران يعود الى احتمال ان تتعرض البلاد الى عدوان يستهدف تدمير المنشآت النووية الايرانية من دون التمييز بين ما هو سلمي وما هو اكثر اقتراباً من الحربي، وفي هذه الحال فإن افضل وسيلة للحفاظ على ما تم انجازه هو التصدير وإلى مناطق لا تطالها الآلة العدوانية وليس هنالك ما هو أمن نسبياً مثل السودان، ونقول ذلك على اساس ان الجنوب اللبناني الواقع تحت سيطرة «حزب الله» مستهدف، كما ان سورية هي الاخرى مستهدفة ولا يمكن تهريب الانجاز النووي إليها.

ومثل هذا التهريب من الأمور المألوفة في ساعات الخطر. وهنالك واقعتان في هذا الشأن حدثتا خلال حربين مضيتا.. فعندما اعتدت اسرائيل يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 على مصر واستهدفت في الدرجة الأولى القواعد الجوية وما عليها من طائرات فإن الطيار المسؤول عن القاعدة الجوية في اسوان مدكور ابو العز بادر الى تهريب اربع طائرات حربية الى السودان وهي الطائرات الوحيدة التي سلمت من العدوان الاسرائيلي واستعادتها مصر بكل الرضى والصيانة وبذلك كانت خميرة اعادة بناء السلاح الجوي المصري. اما الواقعة الثانية فحدثت في زمن حرب بوش الاب على العراق وكانت واقعة تثير الدهشة ذلك ان الرئيس صدام حسين الخارج حديثا من حرب طاحنة مع ايران الخمينية دامت ثماني سنوات اصدر اوامر بتهريب المقاتلات العراقية الى ايران التي استقبلتها وآوتها لكنها لم تعتبرها امانة وانما رهينة ولقد بذل العراق جهدا ملحوظا من اجل استعادة طائراته الحربية من ايران الا ان الايرانيين ادرجوا الحالة في قائمة الثأر الحافلة بالاسباب الموجبة. وتجدر الاشارة الى ان تهريب الطائرات الحربية تواكب مع توزيع الطائرات المدنية بين تونس والاردن.

ونخلص الى القول ان زيارة الرئيس البشير الى طهران دفع جزءا من ثمنها في مفاوضات «دارفور» حيث ان الدرافوريين بايعاز من الادارة الاميركية او بحذاقة من جانبهم امكنهم استنساخ الاسلوب الذي اعتمده الجنوبيون في تفاوضهم مع «حكم الانقاذ» وها هم في المرحلة الانتقالية يملون شروطا بدا من الصعب على المفاوض البارع علي عثمان طه عدم التجاوب معها وذلك لأن عدم التجاوب يعني الفشل وهو امر لا يريده صانع اتفاق السلام مع الجنوب لنفسه. وما سيحدث بعد طي صفحة دارفور هو ان الادارة الاميركية ستفتح صفحة جديدة يتم بموجبها نتف المزيد من ريش «الانقاذ» الذي كان صغيرا وها هو بعد الذي انتهى اليه امر الجنوب ثم امر دارفور بات مطالبا بتوضيح مسألة اساسية تتعلق بالتسمية نفسها وهل ان «الانقاذ» كان من اجل ان ينتهي السودان كيانات قابلة لان تصبح جمهوريات مستقلة، خصوصا ان هناك حالة اخرى ستعقب حالة دارفور. وقد يقال ان اهل الحكم السوداني ارادوا استباق ما قد يحدث من خلال الورقة النووية الايرانية ومن اجل ذلك جاءت زيارة الرئيس البشر لطهران في وقت يتزايد الضجيج الدولي وتتزايد احتمالات المواجهة. لكن استعمال هذه الورقة من شأنه ان يفيد لو ان البشير ذهب عارضا مسعى لتهدئة الحدة التي تتسم بها التصريحات الايرانية وفي الوقت نفسه تبديد المخاوف الدولية والقلق الخليجي. وهو لو استبق الزيارة بتصريح في هذا المعنى أو لو أنه لمجرد وصوله الى طهران قال انه يزورها كرئيس للقمة العربية وليس فقط كرئيس للسودان وان الهدف من هذه الزيارة هو العمل على استباق حريق يمكن ان ينشأ ولا تسلم منه اصابع الجميع، لكان وجد ان الامة ستشكر له سعيه وان المجتمع الدولي سيكون اكثر رفقا بالوضع السوداني، فضلا عن انه بذلك يؤكد انه يمثل كل السودان وليس فقط شيوخ «الانقاذ» وجماهيره وذلك لأن الجنوب بدءا من النائب الاول وصولا الى بقية المسؤولين الجنوبيين هم مع اميركا وليسوا مع «الانقاذ» وان الدرافوريين هم في الحالة نفسها. لكن البشير لم يفعل ذلك وذهب يستمع الى عرض يقوم على تصدير «الايجاز» النووي الايراني الذي يعيد الى الاذهان حكاية «تصدير الثورة» التي ولدت حربا مع العراق. وما يحدث الآن وحتى اشعار آخر هو من تداعيات تلك الحرب الصغرى التي ربما تؤسس للحرب الكبرى. والله اعلم.