الأنف الطويل للديبلوماسية الاميركية

TT

هل أميركا ضرورة للعالم؟ وإذا كانت ضرورة، فهل مفيدة هي أم ضارة؟

أميركا ضرورة عالمية! ليس لأنها أميركا، وانما لأن العالم منذ تاريخه المعروف محكوم بقوة أكبر أو قوى كبرى، وليس بالوهم الشائع الذي نسميه القانون الدولي.

الحقيقة تصدم وتدهش. الصراحة الواقعية كافية للاتهام بالأمركة، أو «القبض» من أميركا، كما هي العادة عند العرب، في سهولة التخوين سابقا والتكفير لاحقاً. نظمت الامبراطورية الرومانية شؤون العالم القديم وهيمنت عليه. في العصور الوسيطة، اقتسمت الامبراطورية العربية العالم مع امبراطورية شارلمان. عندما ضعفت وتلاشت الامبراطوريات الثلاث، اختل التوازن العالمي وسادت الفوضى ونشبت الحروب.

في العصر الحديث، ورثت الامبراطورية البريطانية تجارة العالم من البرتغال والاسبان، وحكمته قرنين. كان القرن العشرون أميركيا. جاء الأميركان من كوكب آخر. حكموا العالم وما زالوا، وهم غرباء عنه، وجهلة به. فرضوا «توازن الرعب» عليه. كسبوا حربين عالميتين، ومنعوا الثالثة بالقوة الرادعة. أسقطوا امبراطوريات أوروبا الاستعمارية، ثم الامبراطورية السوفياتية، من دون أن يطلقوا صاروخاً نوويا أو رصاصة واحدة.

إذا كانت الدولة الكبرى ضرورة لحفظ التوازن العالمي وأحياناً الإقليمي، فهل أميركا بالذات، كالدولة الكبرى الوحيدة الباقية على قيد الحياة، مفيدة أو مؤذية وضارة لهذا العالم؟

لا تسل هذا السؤال في العالم العربي. أميركا في الشارع العربي دولة كبرى مؤذية وضارة للعرب. فهي منحازة لاسرائيل المحتلة الغاصبة للأرض والطاردة للسكان. للعرب ديوان ضخم في هجاء أميركا. في اللغة الخشبية للأدب القومي والماركسي، هي دولة امبريالية. حليفة للرجعية. رأسمالية معادية للاشتراكية التقدمية القديمة. في أدب العرب الأصولي، تغيرت المفردات ولم يتغير الهجاء: أميركا معادية للإسلام. فهي دولة كافرة وزنديقة تستحق الرجم واللعن، والدعاء عليها بالطرد من جنة الدنيا والآخرة.

في مرض انفصام الشخصية العقلي، يتعامل العرب بازدواجية عقلية مع أميركتين: أميركا المنحازة الظالمة المحتلة. نحرق أعلامها. نتظاهر ونهتف ضدها. نشتم زعماءها وساستها. نفلسف الكتابة ضدها. نعلق أخطاءنا وتقصيرنا وهزائمنا عليها.

وأميركا الأخرى التي ننشد وساطتها مع أعدائنا. نستدعيها للتدخل في شؤوننا، والفصل في خلافاتنا. بل ونستعديها ونحرضها على أشقائنا. أميركا المهووسين بثقافتها الشعبية، بأفلامها، بتلفزيونها، بصحافتها. نلبس بنطالها الجينز. ننتعل أحذيتها الخفيفة. نشرب الكوكا كولا حتى الثمالة. نأخذ أطفالنا ليلتهموا الوجبات الرخيصة في مطاعمها. وندرس ونتخرج في جامعاتها.

ماذا تريد أميركا من العرب؟

موت السياسة في العالم العربي أطلق العنان لأنف أميركا الديبلوماسي الطويل لممارسة تدخل وضغط بلغا الذروة. ديبلوماسية الدولة الكبرى منذ الاغريق والرومان والعرب والاتراك قصيرة النفس. لا تقبل الحوار. تفضل القوة. أمر كسرى بجلد البحر مائة جلدة عندما هاج. دمر الرومان دولة تدمر العربية المبكرة في الازدهار. لم يقبلوها منافسة ومحاكية لهم. فضلوا الغساسنة في الشام حماةً لثغورهم، كما فعل الفرس بالمناذرة في العراق.

ديبلوماسية أميركا فظة. فجة. متغطرسة، بلا تقاليد عريقة. ديبلوماسية متدخلة ضاغطة سرا، بلا مصداقية. في عصر بوش باتت الديبلوماسية العلنية أداة لسفراء أميركا وجنرالاتها. ينتقدون حتى الرؤساء والزعماء. يتواصلون غالبا: في تجاهل للنظام، مع مراكز القوى في المجتمع. يمولون أو يحرضون المعارضة. يلتقون الأحزاب والهيئات والنقابات والصحافة علنا، بلا أي اعتبار للاستقلال والسيادة!

التاريخ الديبلوماسي للغرب، عموما، في المنطقة كان تاريخ مماطلة وخداع وغدر للحفاظ على المنافع ولتمرير المشاريع والمصالح. فلسطين مثال واضح بلا حاجة الى تفاصيل معروفة. هل أبقت اسرائيل شيئا من «خطة الطريق» لإقامة دولة فلسطينية حقيقية؟! اسرائيل ترفض الحوار مع الفلسطينيين، وتفرض سلام الأمر الواقع والحدود والاستيطان من جانب واحد. مع ذلك، تضغط أميركا على دول الأطراف الصغيرة للاعتراف والتعامل مع اسرائيل، وللضغط على «حماس» لتعترف وتتعامل معها.

ديبلوماسية الخرائب والمغاور ارتكبت خطأ ذريعا في تقدير ردود فعل عملية 11 سبتمبر. سقطت الأبراج، ولم تسقط أميركا. حدث تغيير نحو الأسوأ في ديبلوماسية القوة. أسقطت أميركا نظام طالبان وابن لادن. احتلت أميركا أفغانستان واتبعته باحتلال العراق.

جهل ديبلوماسية بوش شبيه بجهل ديبلوماسية الخرائب. تحمِّل الإدارة الأميركية النظام العربي مسؤولية تفشي هذا الانموذج من الأصولية المنغلقة أو التكفيرية. بحجة مكافحة الإرهاب، تضغط الإدارة على النظام العربي لكي «ينصلح»، ويقبل بالديمقراطية الفورية، ديمقراطية مستعجلة بلا تربية، بلا هيئات ومؤسسات وقوى ديمقراطية. «انصلح» نظام عباس فأنتج حكومة «حماس» الجاهلة لأصول اللعبة الديبلوماسية. كاد نظام مبارك «ينصلح» لولا استدراكه الخطأ في اللحظة الأخيرة، قبل أن يجتاح الحزب الديني ديمقراطية الانتخاب.

رياء الديبلوماسية الأميركية يرفض حكومة «حماس» التي جاء بها المشروع الإصلاحي الأميركي. أميركا تعاقب الفلسطينيين، لأنهم انتخبوا «حماس»، بديبلوماسية الجوع والحصار، ومنع الدعم

العربي لهم. قبل ثلاث عشرة سنة، طالبت هنا في «الشرق الأوسط» بتأجيل المشروع الديمقراطي. اعترض الكتاب الزملاء من أصوليين و«علمانيين». ما زلت معارضا لكل «المعارضات» العربية. فهي أسوأ من النظام في جهلها بالديمقراطية. «المعارضة» العراقية التي أوصلتها أميركا الى الحكم في العراق دليل واضح على انعدام قدرة القوى الدينية وغير الديمقراطية، على اقامة نظام ديمقراطي حقيقي.

أميركا اليوم في مرآة العالم والعرب امرأة سيئة السمعة. العداء لإدارة بوش أكبر من العداء لأميركا. موت السياسة يمنع التعبير الشعبي ضد أميركا، لكن حيثما ذهب بوش ورامسفيلد وكوندوليزا في هذا العالم، فحرية الرفض تطغى على المجاملة الرسمية لزوار الفضاء الآتين من كوكب آخر، كوكب لا يعرف شيئا عن العواطف والآمال التي تدغدغ سكان الكوكب الأرضي.

إدارة بوش/ تشيني التي تطالب العرب بحقوق الانسان هي المتهمة باغتيالها في داخل اميركا. بلغ سوء السمعة الى درجة ان النظام العربي لا يرغب في اظهار العداء لايران نووية. كيلا يبدو مؤيدا سلفا لضربة ما قد توجهها أميركا لدولة قوية مجاورة. النظام العربي ينأى بنفسه عن أميركا كيلا يظهر في الصورة معها.

هل هناك أمل في تحسين سمعة أميركا عربيا وعالميا؟

أميركا تدفع ضريبة القوة والهيمنة والتدخل من سمعتها كدولة كبرى غير قادرة على ارضاء الخصوم والحلفاء. أميركا أصلا منذ جورج واشنطن الى جورج بوش تتعامل مع العالم بالشبهة والجهل. الحقيقة الأكثر أهمية كون ديبلوماسية أميركا الخارجية محكومة، في سذاجتها، بسياساتها الداخلية الأكثر تعقيدا والأصعب فهما.

مع ذلك، أظن بوش قد تلقى درسا قاسيا في غزوه العراق. الإدارة الاميركية تعمل الآن على إكساب ديبلوماسية القوة «مشروعية دولية»، من خلال رد الاعتبار للأمم المتحدة. في مشروع ضرب ايران النووية، يحاول الشرطي الاميركي ارتداء لباس الشرطي الدولي (مجلس الأمن).

النظام العربي أذكى من نظام بلير. سار بلير وراء بوش فتلقى ضربة انتخابية موجعة. موت السياسة لا يفرض على النظام العربي خوض تجربة انتخابية مماثلة. النظام يكتفي بالمسايرة، والاستماع الى «النصيحة» من دون أن يعمل غالبا بها. يحاول النظام كسب الوقت، لعل وعسى رئيس أميركي آخر يأتي من الفضاء في نهاية هذا العقد لإجراء عملية تجميل ديبلوماسية لأنف أميركا الطويل.