دولة إسلامية أم دولة للمسلمين؟!

TT

الاسبوع الماضي تابعت سجالا مثيرا في الصحافة السعودية، بين أحد خطباء الجوامع المعروفين، وصحافي، الخطيب، وهو الدكتور سعد البريك، كتب مهاجما مفهوم الدولة المدنية لأنه: «لا مكان فيها للشريعة، طبعا لأن الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية الحاكمة بالشرع». (ملحق الرسالة الصادر عن جريدة «المدينة» 28 ابريل المنصرم).

الصحافي والكاتب قينان الغامدي، رد في صحيفة «الوطن» السعودية بتاريخ 4 مايو الحالي، بمقال ساخن، سأل فيه الخطيب: «أفدنا أفادك الله ما هي الآليات المدنية الديموقراطية التي يطبقونها (الغرب) في ميادين الحرية المنضبطة والعدل السائد والحقوق المحفوظة، وتجدها يا دكتور سعد تتناقض وتتصادم مع الإسلام؟».

في تقديري، أن هذا الجدل السعودي، صحي ومطلوب، حتى يظهر السعوديون مجتمعا «طبيعيا» فيه اكثر من اقتراح، ولديه اتجاهات مختلفة في التفكير.. كأي مجتمع حقيقي.

وبصرف النظر عن النقاش التفصيلي مع طروحات قينان الغامدي او البريك، الذي يعتقد في مقاله هذا، أن الديموقراطية هي : «إلغاء لمفهوم الدين». الامر الذي قارب فيه الجامايكي «ابو عز الدين» زعيم حزب «المهاجرون» وتلميذ عمر بكري، وخليفته على الحزب من لندن، عن الديموقراطية، حيث اعتبرها، كما نشر في «الشرق الأوسط» امس من: «نواقض الايمان».

لكن ليس هذا هو نقاشنا، فجوهر الموضوع أن مسألة الديني والسياسي في الثقافة الاسلامية، مسألة معقدة وملتبسة، وليست بالحدية والوضوح الذي يقوله سعد البريك.

منذ البدايات، كان هناك نقاش واختلاف حول تعريف المسألة السياسية في الاسلام وتحديد ملامحها وتحديد التدخل الديني المباشر فيها وتمييز مساحة الحركة الحرة من المقيدة. اختلاف بين الفقهاء، فقهاء السياسة الشرعية, وهو اختلاف قديم وليس من «بدع» هذا العصر.

وهناك من الاسئلة في هذه المسألة، اكثر مما فيها من الأجوبة، بدليل انها ما زالت محل سجال ونقاش، منذ ايام السقيفة الى ايامنا المعاصرة.

السؤال: هل ينطوي الدين الاسلامي على مشروع سياسي؟ ثم هل هو مختزل بهذا المشروع أم أنه مؤسس لملة وحضارة جديدة؟ واذا كان الدين الاسلامي ينطوي على مشروع سياسي، فما هو؟ ومن يمثله حقا، ولماذا تصبح الدولة «العباسية» مثلا، أجدر بتمثيل المشروع الاسلامي السياسي من الامويين؟ ولماذا تصبح «طالبان» في الوقت المعاصر، هي ممثلة المشروع السياسي الاسلامي لوحدها، كما يرى المعجبون بنموذج طالبان والباكون عليه؟!

هناك من يرى من الباحثين، ان كل الديانات تشتمل على طاقات سياسية كامنة، ولكن كل دين او ملة، محكومة بتاريخها وطبيعة التحولات التي مرت بها، خصوصا في لحظات التكوين والتأسيس، وخصوصا ايضا، اذا طالت مدة هذه الظروف، فإنها تسم الثقافة كلها بميسمها، فمثلا لو ان الرومان تبنوا المسيحية منذ البداية، ولم يتعرض اتباع الديانة المسيحية الى الاضطهاد، الامر الذي جعل فكرة التضحية والتعلق بـ«مملكة السماء» وليس الارض، سمة بنيوية، في الوجدان المسيحي، لو أن هذا الاضطهاد لم يحصل، لربما اصبحت الديانة المسيحية دولة وشريعة، ولذلك وحتى حينما رفع الامبراطور الروماني قسطنطين الحصار عن المسيحية، ودخل هو فيها (سنة 313م) لم يتغير هذا الامر كثيرا، لأنه أصبح سمة «تأسيسية» في المسيحية.

وفي اليهودية، التي هي ديانة شريعة وجربت الدولة، حدث شيء قريب من ذلك، فقد تعرض اليهود الى فترات طويلة من الاضطهاد، الامر الذي تعذر معه تطبيق المشروع السياسي والمجتمع اليهودي «السيد» بسبب غياب الحامل السياسي «الدولة» على فترتين: فترة السبي البابلي الطويل، ثم فترة تدمير مملكة اليهود على يد الرومان، وتحديدا هدم الهيكل سنة 70 ميلادية على يد الامبراطور الروماني «تيتوس»، ومنذ تلك اللحظة ظل المشروع السياسي، او الطاقة السياسية، في الديانة اليهودية في حالة كمون مديد في فيافي الزمان، حتى قامت اسرائيل سنة 1948، رغم ان المسألة الدينية، ايضا معقدة في بنية الدولة اليهودية الحالية، حسب ملاحظة الباحث الامريكي برنارد هيكل.

حسنا ماذا عن الوضع في حالة الاسلام؟

الحق أن المسألة معقدة تماما، ولكن لنقسم التاريخ، تاريخ التكوين والتأسيس الى مرحلتين: المكية والمدنية، في الحالة المكية، كان الغرض بناء «الملة»، ورسم وتعميق الوجدان الديني الجديد، النقيض للوجدان الحالي في مكة، كان الغرض امتلاك الخيال وهدم الخيال القديم، وهذه مهمة هائلة وصعبة، لكن الاسلام وعبر كفاح وصراع النبي الكريم مع قريش، نجح في ذلك، ثم، وبسبب تزايد الضغط القرشي، رحل الى المدينة، وهنا حدث تحول ضخم وفارق كبير بين المرحلتين، ففي مكة لم تكن هناك دولة، ولم يوجد «سلطان»، لكن في المدينة وجد الحامل السياسي، الذي يحمي الجماعة، ويضمن بقاء تماسكها، ولكن، وحسب الدكتور عبد الاله بلقزيز في كتابه: «تكوين المجال السياسي في الاسلام»، فإن دولة المدينة كانت دولة مسلمين، وليست دولة اسلامية بالمعنى الاصولي الحديث للكلمة.

ويضيف عن هذه الدولة: «لم تقتصر على المسلمين حصرا: مهاجرين وانصارا، بل شملت المخالفين في الملة من القبائل اليهودية في المدينة التي ابرم معها النبي «عقدا سياسيا».

غير أن هذا الامر اختلف بعد احتدام المواجهة مع يهود المدينة بسبب انضمامهم لخصوم المسلمين من قبائل قريش وغطفان.

ويشير بلقزيز إلى ملاحظة مهمة جدا، وهي أن قصر الفترة المدنية، لم تجعل بعض المسلمين، خصوصا من غير اهل المدينة، يتشربون الاسلام، كثقافة أصيلة ووجدان جديد، بل خضعوا للاسلام من باب الامر الواقع، ويدل على ذلك كثرة اعداد المسلمين الجدد في السنتين الاخيرتين من العهد النبوي، ويدل على ذلك ايضا سرعة ارتداد البعض عن الاسلام من حين رحيل النبي الكريم.

ولذلك أصبح الالزام بالشريعة الاسلامية، وربط منطلق القرار السياسي بالخضوع لها، في حروب «الردة»، التي خاضها الخليفة ابو بكر ضد القبائل الثائرة والمرتدة، أصبح ذلك، في وجه من الوجوه، لا كل الوجوه، هو إخضاعا لسلطة الدولة، دولة المسلمين، ودفاعا عن بقاء وتماسك الجماعة، مع الاخذ بالاعتبار انقطاع الوحي المعصوم، وبقاء شرعية السياسي، الذي يأتي بعد النبي المعصوم، هي شرعية اقتداء، يقول عبد الاله بلقزيز: «لقد كانت الدعوة في عز سلطة الوحي ومرجعية النبوة، في حاجة الى سلطان سياسي ينتظم به حالها، وتنفتح لها به أبواب الفشوّ والسيادة، أما بعد الغياب النبوي، وقبله انقطاع الوحي، فقد باتت في حاجة مضاعفة، الى ذلك السلطان الذي به تستوي وتفشو» (ص 43).

إذن فربما، يمكن تفسير الارتباط الوثيق بين الدين والدولة في بواكير الاسلام، بسبب «طراوة» العقيدة، في قلوب الداخلين الجدد، وبسبب ظروف بداية التكوين وحماية الجماعة وتكثيرها، كما هو الشأن «الطبيعي» مع كل دعوة جديدة، خصوصا اذا كانت دعوة بضخامة وعمق وأثر الدعوة الاسلامية في تاريخ الانسانية جمعاء.

لكن، وقد مضى اكثر من اربعة عشر قرنا، على هذا التاريخ، والظروف الخاصة، ومع «تجذر» الوجدان الاسلامي، الذي أصبح حقيقة، وليس افتراضا، او شيئا طريا يخشى عليه، ومع تحول المسلمين الى «مكوّن» رئيس من مكونات التاريخ الانساني، بكل حضارتهم وثقافتهم وتاريخهم واسهاماتهم الكبرى في صياغة وجه التاريخ على هذه الارض، مع كل هذا الرصيد الطويل،

و«الحقائق» الصلبة، يصبح هاجس، حفظ «الجماعة»، و«تجذير» الوجدان الجديد، هاجسا غير مبرر ولا ملحّ.

إن العلاقة بين الدين والدولة، في تاريخ المسلمين، لم تنحصر في حالة واحدة، ولم تقتصر على صورة معينة من العلاقة، فلدينا نموذج الخلفاء الراشدين الاربعة، وكل منهم اختير بطريقة مختلفة، ثم لدينا نموذج الدولة الاموية، وطبيعة الثقافة السياسية الجديدة التي فرضها معاوية، وحدد فيها شكل العلاقة بينه وبين علماء الدين، ولدينا، اذا ما قفزنا مراحل التاريخ، نموذج الدولة العربية والاسلامية المعاصرة، وهي دولة تنتمي الى عصرها، كما انتمت الدولة العباسية الى عصرها «الوراثي»، ولم ترجع الى النمط الراشدي بعد تقويضها للدولة الاموية!

فلماذا يريد بعض «مسطحي» التاريخ، ان يحتكروا تفسيرا معينا لطبيعة هذه العلاقة، في حين ان كل وقائع التاريخ تنشر أمامنا صفحات تتسع لكثير من الالوان والقراءات.

.. وبعد، فهذه مجرد محاولة لمقاربة مسألة العلاقة بين الدين والدولة في تاريخ المسلمين، مع معرفتي التامة بمدى حساسية وسخونة هذه المسألة، لكنني أحسب أن تحليلها وتأملها، وفتح النقاش حولها، واجب وحالة ماسة.

إنها مسألة مثل جبل كبير وشاهق، يمكن الصعود اليها من عشرات الطرق، لا من طريق واحدة، ولا بلغة واحدة.. والأهم من هذا كله، ان نجعل النقاش فيها بعيدا عن التخوين والتجريم، وقذف الحجارة، فلسنا بحاحة للمزيد من النزيف..

[email protected]