أيام فاتت

TT

كان من الشخصيات الظريفة في تاريخ الصحافة العراقية، السيد عادل عوني، أو كما كان يعرف بين المثقفين بعادل كلجية، تيمنا بالمبنى العام الذي كان قائما في بغداد حتى الخمسينات، وتولى عادل عوني مهمة ضابط الشرطة فيه. ولكنه توصل فيما بعد الى الاعتقاد بأن الصحافة اشرف عملا من ذلك، فأصدر في الاربعينات جريدة «الحوادث» المسائية. وكان له عمود ظريف فيها باسم «افاويه».

كمعظم اصحاب الجرائد في ذلك العهد، ولا سيما خلال الحرب العالمية الثانية، كان يتسلم مساعدة شهرية من الانكليز. ولكن بينما كان الآخرون ينكرون ذلك ويثورون على من يتهمهم به، كان عادل عوني يعترف به ويقول « صحيح جدا. انا اتسلم رواتب منهم، ولكنهم لن يستفيدوا مني بشيء يخدمهم او ان انفعهم بشيء، سواء كتبت ام لم اكتب فالوضع ماشي كما هو».

وهذا في الواقع ما حدث، فلم تستطع الحوادث ولا غيرها ان تحول دون سقوط النظام وطرد الانكليز من العراق. بعبارة اخرى، ضيعوا فلوسهم عليه. ما قاله عادل عوني ينطبق في الواقع على الامريكان اليوم. لقد خصصوا ملايين الدولارات لكسب مودة العالم العربي، وما زال كره الامريكان يتصاعد في قلوب العرب من يوم الى يوم.

بيد ان ثورة 1958 اوقفت صدور جريدة «الحوادث». وكانت حكومة الجمالي قد اغلقت الكلجية من قبل، فلم يعد بامكان عادل عوني ان يعود اليها. لم يعرف اين يذهب.

اخيرا خطر لعبد الكريم قاسم ان يزعل على حلفائه في الحزب الشيوعي وينكل بهم بتأسيس حزب شيوعي آخر بزعامة داود الصايغ، احد الشيوعيين المتقاعدين من الشيوعية. خصص له المساعدة المالية اللازمة. واخذ داود الصايغ يتقاسمها مع اصحابه من اعضاء اللجنة التنفيذية لحزبه الجديد.

سمع عادل عوني بذلك فأسرع اليهم. طرق بابهم وأعلن عن رغبته في الانضمام للحزب الشيوعي الجديد وتسلم حصته مما يتسلمونه من الحكومة. تلا لهم شيئا مما سمعه من البيان الشيوعي وعرفه من كتاب رأس المال وأسس المادية الديالكتية، فنظر في وجه احد اعوان داود الصايغ، وقال له: امش من هنا! ... لا مكان لك بيننا. تريد تجلب علينا الشبهات؟!

ومن الواضح ان عبد الكريم قاسم لم يتعلم من الانكليز الدرس الذي تعلمه عادل عوني فأضاع فلوسه على داود الصايغ دون ان يستفيد منه بأي شيء في ايام محنته.

ومع ذلك، فانني اعتقد ان ما كان الانكليز يقومون به وما قام به عبد الكريم قاسم وسواه من الحكام ومن الامريكان، يشكل في الواقع اساس الاقتصاد . فلولا هذه المبالغ التي يقبضها الوف الكتاب والشعراء والزعماء وقادة الفكر عندنا لقاء قيامهم بلا شيء، لانهار الاقتصاد العربي ومات الناس جوعا.

وهذه ظاهرة نستنتج منها ان عدم القيام بأي شيء بدلا من القيام بأي عمل هو خير وسيلة لازدهار الاقتصاد وسلامة الارواح والاوطان , التجربة خير مثال على ما أقول.