إشكال الدولة لا الدين

TT

نبهني مقال الزميل مشاري الذايدي «الشرق الأوسط 9 مايو» إلى الجدل الدائر حاليا في الصحافة السعودية حول الدولة المدنية وعلاقتها بالشرع.

ولقد عكس هذا الجدل الصحي المواقف السائدة حاليا في الفكر العربي حول طبيعة الدولة في الإسلام من حيث أسس الانبناء وأطر الشرعية.

ومع أن مقالة الدكتور سعد بريك التي فجرت النقاش، كررت رأيا سائدا في الأدبيات الإسلامية مفاده «ان الدولة المدنية نقيض للدولة الدينية الحاكمة بالشرع». إلا أنها لم تأخذ بالحسبان بعض المراجعات الجزئية التي حدثت في السنوات الأخيرة لاستيعاب المنظومة الديمقراطية داخل الحقل الفكري الإسلامي.

وللإشكالية ثلاثة أوجه متمايزة، نادرا ما يتم استكناهها، يتعلق أولها بمفهوم الدولة الدينية ذاته، ويتعلق ثانيها بمدى تلاؤم القيم والآليات الديمقراطية مع الإسلام، ويتعلق ثالثها بالموقف من نموذج الدولة الوطنية الحديثة التي عوضت دولة الخلافة في المجال الإسلامي (هل هي دولة علمانية مرفوضة أو داخلة في الحيز الإسلامي الواسع، ما دامت تنص على أن دينها هو الإسلام).

وليس من همنا معالجة هذه الإشكالات الثلاثة التي تمثل الإطار النظري الأوسع لعلاقة الدين بالسياسة في الخطاب العربي السائد. وإنما حسبنا الإشارة إلى أن أغلب اتجاهات الفكر الإسلامي تتأسس على القول بشمولية الإسلام واستيعابه للمنظور السياسي؛ أي ما عبر عنه شعار حسن البنا المعروف «الإسلام دين ودولة مصحف وسيف».

ومع أن بعض المفكرين الإسلاميين ينفي عن الدولة الإسلامية سمة الدينية، باعتبار أنها لا قداسة لها من حيث دائرة الحكم، وإنما تقوم على البيعة والعقد والتراضي، إلا أن هذا الرأي لا يتصادم مع مبدأ الشرعية الدينية للدولة، بصفتها تقوم على أحكام الشرع وضوابطه.

ويلاحظ إجمالا أن الفكر الإسلامي لم يتخلص في الغالب من نموذج «الأحكام السلطانية»: الذي يشكل القاعدة المرجعية لأدبيات الفقه السياسي الوسيط. ويتأسس هذا النموذج على مقولتين مترابطتين هما: النظر إلى الإمامة بصفتها واجبا شرعيا وعقليا لحراسة الدين وسياسة الدنيا، حسب عبارة الماوردي المشهورة، واعتبار الأمة بمفهومها الديني (مجموع أهل القبلة) دائرة الانتظام الجماعي وإطار المواطنة.

ولا شك أن الإشكال النظري الذي يواجه اليوم الخطاب الإسلامي السائد لا يتعلق بالحوار العقيم حول نظرية الحكم في الإسلام، وإنما يتعلق بطبيعة الدولة الوطنية الحديثة كشكل جديد من أشكال التنظيم السياسي لا علاقة له إلا بالتشابه الاسمي السطحي مع نموذج الدولة السلطانية.

فعلاقة الدين بالدولة تقتضي بدئا الوعي بالخصوصيات المميزة لنمط الكيان السياسي المنظم في العصور الحديثة ونمط الصلة التي تربطه بالشأن الديني إجمالا، في ما وراء الاختلافات الواضحة بين السباقات الثقافية والمجتمعية العالمية.

فالدولة الوطنية الحديثة تأسست على مقاربة جديدة للسلطة، ولعلاقة الشأن العام بالجسم الاجتماعي، قوامها التصور القانوني الاجرائي للمجموعة السياسية بصفتها تعبيرا عن علاقات تعاقدية، تستمد شرعيتها من داخل النسق المجتمعي نفسه.

فالدولة من هذا المنظور ليست سوى أداة تنظيمية للنوازع الفردية المتصادمة، ولم تعد إطارا شاملا لتكريس قيم الفضيلة وتحقيق السعادة، حسب التصورات اليونانية والوسيطة التي اعتمدتها الأدبيات السياسية الإسلامية.

بيد أن هذا التحول قد أفضى إلى نتيجتين تبدوان متعارضتين هما: تقويض الطابع المطلق الشمولي للدولة باختزال مبدأ التنظيم السياسي في إجرائية التعاقد العرضي، واستبدال المطلق الديني الذي كان هو أساس شرعية الدولة الوسيطة (بمختلف ألوانها)، بالمطلق السياسي؛ أي الولاء للأمة بمفهومها القومي والرمزي.

وقد أبدع العقل السياسي الحديث للتغلب على هذه المفارقة لمفاهيم محورية مثل السيادة والتمثيل والشخصية؛ وهي كلها تعبيرات عن الحاجة الموضوعية للوساطة المطلوبة بين ذرات الجسم السياسي المشتتة بعد انهيار الوحدة الأصلية للكيان السياسي التي كان مرتكزها هو الدين. ومن الواضح أن الأنموذج القانوني الذي أفرز هذه المفاهيم، تحول من سمته الإجرائية المحضة (أي تنظيم علاقات القوى بين المجتمع مع الحياد الشامل إزاء شتى التصورات والأنساق القيمية) إلى طابع قيمي إيجابي، غذته الايديولوجيات التاريخانية والوضعية التي هي أساس التصورات العلمانية السائدة.

فالدين من هذا المنظور هو في آن واحد العامل الخارجي المقصي لأن مبدأ الشرعية السياسية مستمد من داخل نمط الاجتماع المدني والأفق الرمزي الحاضر بصفة ملتبسة من خلال السمة الاطلاقية للكيان السياسي «أي ما عبر عنه روسو بالديانة المدنية العمومية».

فالخطأ الجلل الذي تقع فيه أغلب اتجاهات الفكر الإسلامي هو محاولة أسلمة الدولة الوطنية الحديثة، دون الوعي بكونها تستبطن الوظائف العمومية التقليدية للدين وبإمكانها بسهولة تحويل شتى الدعوات الدينية الى احد اجهزتها الايديولوجية الفاعلة التي توظفها في تكريس عقيدة الولاء للكيان القومي «إنها الظاهرة البارزة حاليا في ايران وفي السودان أيام ثورة الإنقاذ).

فالسؤال ليس إذا هل الإسلام دين ودولة، وإنما يتعلق بمقتضيات وشروط العلاقة الممكنة بين الدولة القومية التي هي مبدأ التنظيم السياسي الحديث الذي اعتمدته كل بلدان العالم، بما فيها البلدان الإسلامية. والإسلام بصفته منظومة روحية

وحضارية استطاعت التكيف في المرحلة الوسيطة مع أشكال مختلفة من الدولة (الخلافة الراشدة ـ الدولة العصبية السلالية ـ الدولة السلطانية ـ البلاد السائبة ـ الإمامة الطائفية..). ولقد استطاع فقهاء الإسلام في كل هذه المراحل إبداع آليات التكيف الملائمة مع تحولات أشكال التنظيم السياسي، ونصب أعينهم مبدآن محوريان هما: أن الإمامة عقد وضعي حتى لو كانت واجبا شرعيا، وأن العدل هو الثابت الكلي الأوحد في نظرية الحكم.