منطقة تتأرجح بين فيتنام والبوسنة

TT

قبل نحو اربع سنوات كان العراق بمنظور الادارة الجمهورية في واشنطن، مشكلة خارجية تستدعي حلا عسكريا... فأصبح اليوم مشكلة داخلية تستوجب الاستعانة بالخبراء والعودة الى السوابق، لايجاد مخرج يحفظ ماء الوجه، من مغامرة ما كان «المحافظون الجدد» يزجون البيت الابيض فيها لو انهم استمزجوا هذه السوابق قبل المغامرة... لا بعدها.

المخرج، كما يبدو، انيط بلجنة مستقلة شكلها الكونغرس الاميركي في مارس (آذار) الماضي برئاسة وزير الخارجية الاسبق، جيمس بيكر(الديمقراطي)، وعضو الكونغرس (الديمقراطي ايضا) لي هاملتون، لوضع تقويم جديد للبيت الابيض والكونغرس معا، يحدد الخيارات المتاحة للولايات المتحدة لانجاز التزاماتها في العراق، فيما تبرع عدد من السياسيين بتقديم الرأي والمشورة، ابرزهم كان سناتور ولاية ديلاوير، جوزيف بيدن.

لافت ان تضطر الادارة الاميركية الى «استدراج عروض» من المحللين والسياسيين الاميركيين حول الطريقة الانسب للخروج من الورطة، التي زجت نفسها بها في العراق، وهي التي كانت،

قبل غزو العراق، تحاضر العالم في كيفية التعاطي معه... للقضاء على بؤرة «اسلحة الدمار الشامل».

ولكن خطورة فتح «بازار» الاقتراحات ظهرت في اتجاه المحللين والسياسيين الاميركيين إلى العودة الى سابقتين في تاريخهم الحديث: حرب فيتنام وحرب البوسنة.

دعاة أخذ العبرة من حرب فيتنام نصحوا بأن تتحول استراتيجية واشنطن العسكرية في العراق الى عمليات دفاعية في وجه «المتمردين»، انطلاقا من اعتقادهم بأن الحرب انتهت مع خسارة الاميركيين «لقلوب ورؤوس» العراقيين، تماما كما سبق ان انتهت حربهم في فيتنام في الستينات للسبب نفسه.

الا ان منطق جماعة السابقة الفيتنامية يتجاهل الفارق الشاسع بين طبيعة الحربين العراقية والفيتنامية، ففيما كانت حرب فيتنام، بالنسبة للفيتناميين، حرب تحرير من الاستعمار الفرنسي، ثم الاحتلال الاميركي، وبالنسبة للولايات المتحدة ضرورة استوجبتها استراتيجية احتواء المد الشيوعي في الشرق الاقصى، كان اجتياح العراق، بالنسبة لواشنطن، حرب «خيار» أكثر مما هي حرب «ضرورة»، أي في واقع الامر، حربا بلا قضية، خصوصا بعد ثبوت خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل.

ولكن المؤسف في المقابل، ان العراقيين، رغم الاحتلال لم يتوحدوا حول قضية تحرير وطنية تؤسس لنشوء مقاومة قومية، واستطرادا لعودة الدولة الواحدة الموحدة، إذ ساهمت مناخات «الديمقراطية الاميركية» في شرذمتهم الى ملل ونحل بات من السهل على واشنطن توظيف تناقضاتها في خدمة مصالحها.

أما دعاة التمثل بحرب البوسنة، فإنهم يبرزون الطابع المذهبي المتزايد للصراع الداخلي في العراق، في دعوتهم الى تقسيم الكيان العراقي الى ثلاث مناطق، شيعية وسنية وكردية، تتقاسم الثروات النفطية في ما بينها، وتتولى شؤونها الداخلية بنفسها، على ان يترك تقرير السياسة الخارجية وحماية الحدود وتحديد السياسة النفطية الى الحكومة المركزية في بغداد.

مسوق «الفدرالية العراقية» الابرز في واشنطن، السناتور جوزيف بيدن، حاول اضفاء مصداقية تاريخية على اقتراحه، بالتأكيد على «أن الطريقة الوحيدة لبناء عراق موحد بعد خمس سنوات من الآن، هي في اعطاء كل المكونات الرئيسية للكيان العراقي فسحة للتنفس» ـ أي حكما ذاتيا.

غير خاف ان استمرار الفرز المذهبي والعرقي في العراق ـ والمعلومات الرسمية تقدر بنحو مائة ألف، عدد النازحين من منطقة الى اخرى، بسبب تصاعد اعمال العنف ـ يزيد من مؤيدي طروحات «تشريع» هذا الفرز في واشنطن. وباسم الاستفادة من دروس التاريخ تطرح بجدية في واشنطن السابقة البوسنية، أي سابقة تقسيم البوسنة، في اتفاق عام 1995، الى مناطق تتمتع بحكم ذاتي، والسماح لهذه المناطق بالاحتفاظ بقوى أمن خاصة بها. ولكن المأخذ الابرز على هذا الاقتراح في واشنطن هو ان سنة العراق لا يملكون ميليشيا خاصة بهم يمكن ان تتحول الى قوة أمن ذاتية لمنطقتهم.

واضح ان الذهنية الاميركية «العملية» تتجه، اكثر فاكثر، نحو حصر آفاق الحل المقبول للمشكلة العراقية، بسابقتي فيتنام والبوسنة، رغم ان الحالة العراقية، بمعطياتها الجغرافية ـ السياسية تتجاوز سوابق التاريخ الاميركي، الى الواقع القومي والتراثي للعراق، فالعراق ليس دولة معزولة عن محيطها الشرق اوسطي، لا قوميا ولا مذهبيا، واي محاولة لشرذمته على هذين الصعيدين من شأنها أن تؤسس لشرذمة اوسع للمنطقة لن تصب في خانة استقرار الشرق الاوسط، وبالتالي خانة ضمان امدادات نفطه للعالم الغربي.

وهذا الاحتمال، المقلق للغرب والمخيف للشرق، يستدعي موقفا عربيا موحدا وثابتا حيال مشاريع التقسيم الاميركية للعراق، فالعراق التعددي الموحد ليس فقط ضمانة لاستقرار الشرق الاوسط، بل مؤشر اساسي لامكانات تعايش طوائفه واعراقه بسلام.